الوطن مش بس عماره وحاكورة، الوطن مش بس رصاصة وزغرودة شهادة، الوطن كمان خيط مطرز بثوب صبية، الوطن حكاية غربة وخيمة وعودة وراية بنرسمها على فستان عروس فلسطينية.
هكذا كتبت الفلسطينيّة صفاء سرور، بفخر في تقديم معرضها الثاني لمشغولات يافا للمطرّزات الفلسطينيّة الذي أطلقت عليه اسم خيط وحكاية. قبل الخيط والحكاية، “يافا للمطرزات الفلسطينيّة” مشروع تديره السّيدة صفاء سرور وهي لاجئة فلسطينيّة من قرية نعلين مقيمة بعمّان-الأردن، في وصفه نقرأ: “التطريز الفلسطيني ليس فنا فحسب، بل هو هوية وتاريخ صاغته المرأة الفلسطينية بحب واقتدار. يافا للمطرزات الفلسطينية هو مشروع طرزته نساء المخيمات الفلسطينية في الشتات، وحملنه أملا و حلما بوطن قريب بعيد. وطن نسجته القلوب وروته دماء الشهداء يكبر بالحب والعطاء.” أمّا أهدافه فهي المحافظة على التراث الفلسطيني وتطويره ومساعدة نساء المخيمات لإيجاد دخل لمعاونة أسرهنّ.
المعرض الأوّل ليافا للمطرّزات الفلسطينيّة لاقى إقبالا وترحابا خاصّة من الفلسطينيّين في الأردن، كما بلغ صداه الأراضي المحتلّة وعددا من الدّول العربيّة مثل مصر وتونس والعالم أيضا خاصّة وأنّ الفلسطينيّين منتشرون حول العالم دون أن تنقطع علاقاتهم بالوطن وكلّ ما فيه ريحه. لمست هذا من المتابعين عبر مواقع التواصل الإجتماعيّ، حتّى أنّ اقتراحات بإقامة معارض داخل فلسطين المحتلّة قد وصلت لمديرة المشروع إلّا أنّها رفضتها، لأسباب مبدئيّة في علاقة بالتطبيع ودخول مناطق يديرها الإحتلال الاسرائيلي. ولعلّ التفاعل حفّز المطرِّزات للعمل على معرض ثان، فكان خيط وحكاية الذي أقيم في جاليري مسرح عمون جبل اللوبيدة – الأردن أيام 10-11-12 أيلول/سبتمبر 2015.
الافتتاح:
إنّ هذا المعرض في رأيي أحد تجلّيات المقاومة بكثير من التفاصيل فيه. أوّلها افتتاحه، حيث تقول صفاء: “قالولي كما في المعرض الأول جيبي شخصية مهمة تفتتح المعرض. وبصدق ما بلاقي أهم ولا أعظم من نسوة قدّمن سنوات عمرهن في سبيل الوطن. أم منذر، حماتي التي أمضت أكثر من 58 سنة وهي تنسج لكلّ من عرفها حكايتنا الفلسطينية بالإبرة وبالخيط وكانت قد سبقتها أم ناصر العظيمة في معرضي الأول. دخيلكم جيبولي مسؤول أهم منهن؟”
في رفض للسائد والمعتاد من تبجيل للمسؤولين ذوي المناصب العليا في الدولة أو المنظّمات، تقطع سيّدة فلسطينيّة قديرة شريط الافتتاح. يقول محمد أبو رحمة تعليقا على مشهد الافتتاح “امرأة من غير هذا الزمان قضت حياتها كلّها في تربية الأولاد وفي التطريز. امرأة نحت الزّمان على ملامحها تجارب اثنين وسبعين عاما من حياة قضتها في تثبيت الأكاليل المطرزة على هامات العرائس، وبعروق الشجر على الأثواب، أوراق اللوز، أزهار البرية في قرى فلسطين التي صارت بعيدة في المكان بقدر ما باتت غائرة في الروح. وحين رغبت أن تلقي كلمة قبل قص الشريط عكست وعيا يفاجئ من يستمع إليها حقا. بالذات حين أشارت الى أنّ ‘اليهود يسرقون تراثنا بما فيه التطريز ويزعمون أنه جزء من تراثهم في فلسطين.’ !!”
التطريز الفلسطينيّ:
أذكر أنّي قرأت عند الصديقة الفلسطينيّة لتانيا نابلسي وهي لاجئة في مخيّم البوادي بلبنان أسماء قطب تتعلّم تطريزها في النادي الثقافي الفلسطيني العربي، وهي قطبة السلسلة، قطبة “دعسة الجاجة” وقطبة “ظهر الحمار”. لعلّها تبدو تسميات طريفة، لكنّها كما تقول تانيا “الأسماء التي أطلقها أهلنا على القطب في التطريز. يجب أن نحافظ عليها. هذا من تراثنا، منا وفينا.”
هذه القطب التي تبدو بسيطة، تتجاور وتتلاحق لتتحوّل لرسومات متنوّعة تزيّن أثواب الفلسطينيّات وأغطية الرأس والمفارش والملاءات والوسائد والكثير مما يزيّن البيت الفلسطينيّ. التطريز الفلّاحي هو واحد من مقوّمات الهويّة الثقافيّة الفلسطينيّة. بل هو أقرب لسلاح في يد المرأة الفلسطينيّة تحافظ عليه وتطوّره ولا تستغني عنه رغم تطوّر الحياة وإغراءات الحياة الحديثة. فإن هي لم تحمل بندقيّة فمشغولاتها ترسّخ هويّة تهدّدها يد المحتلّ الذي لا ينفكّ يسرق من تراث فلسطين وينسبه لنفسه. ووعي أمّ منذر وأمّ ناصر وأم غسان وغيرهن من نساء المخيّمات الفلسطينيّة بهذا الخطر يدفعهنّ لمنح الكثير من العمر للخيط والإبرة والقماش في معركة متواصلة مع الاحتلال على الجبهة الثقافية الحرفيّة. أن تكن في مخيّمات “الشتات” الفلسطينيّ لا يمنعهنّ من مواصلة العمل للحفاظ على إرث حضاريّ وتوريثه جيلا بعد جيل، حتى التحرير وبعده. يصوّر الكاتب الفلسطينيّ إبراهيم نصر الله في روايته الأمواج البريّة هذي المعركة:
يا امرأة! كانت تتأملُ مَنْ أبصرها بالثوب القرويِّ هنالكَ واثقةً بالزيتونِ، وبالشمس الجالسةِ على أطراف أريحا. من أبصرها في تلكَ اللحظةِ كالحقلِ وكالمهرةِ أو موجةِ قمحٍ طائرةٍ، رفع الكفين إلى الله تمنى أن تُصبحَ أُمَّه. كانتْ خمسةُ آلافِ سنةْ من سيرةَ أمواج البحرِ هنالكَ فيها مُلتَمَّة. وانتفض حمامُ الثوب الهادئ ثانيةً، فارتجفَ الجنديُ القابع في الكاكي المبتلّ بدم صغيرٍ من بيروت وتقدمَ يتعثرُ.
يا امرأة! هذا الثوب لنا!! وأشار إليها فانتفضتْ أزهارُ اللوز وحوَّم في الأفْق حمامٌ وانقضَّ على المدفع في يده وابتسمتْ أمُّ محمد فارتجف الجنديُّ تقدمَ آخرُ فانتفضتْ مثل حمامِ الثوبِ أحاطوها بالأسلاكِ فالتفتت باسمةً قالتْ: قبل تفجُّر عين النهرِ وقبل تكوّنِ أول غيمٍ كان الزهرُ أليفاً في هذا الأرضِ ولم يتسلَّحْ بعدُ بهذي الأشواكِ! خاطتْ أُمي هذا الثوبُ فخلق الله الغاباتِ الأمواجَ وأطلق ضوء الأفلاكِ. هذا الثوبُ لنا من قبل هبوبِ الريحِ وبعد هبوبِ الدباباتِ يا جنديّ، هذا ثوبُ فلسطينَ. وثوبكَ هذا الدَّمُ الناشفُ في الكاكي.
المعرض:
يعتبر معرض “خيط وحكاية” طريقة لمقاومة السّرقات الاسرائيليّة للحرفة الفلسطينيّة، وإن لم تنحصر السرقات في الكيان. ففي مقال لها بعنوان “التطريز الفلسطيني، فنّ شعبيّ آخر مسروق” قدّمت الباحثة في مجال التصميم ندى جفال نماذج لسرقات للتطريز الفلسطيني وجدتها على موقع anthropologie.com لبيع الملابس والأحذية والاكسسوارات. بعضها كتب عليه “صنع في إيطاليا” دون إشارة لمصدر التطريز الذي يزين الحذاء، آخر مكتوب عليه “تصميم اسرائيلي” إضافة لأثواب لمصممة أمريكيّة تستعمل فيه “قبّة” الثوب الفلسطيني كما نعرفها وتزّينها بتطريز فلسطينيّ مألوف لغير الخبراء حتّى، دون الإشارة لذلك. في حين أنّ صفاء سرور وهي الفلسطينيّة، تقدّم تفاصيل كثيرة عن الأثواب وعن أنواع التّطريز فتطالع في صفحة المعرض على فيسبوك وصفحة مشروعها يافا للمطرزات الفلسطينيّة مرفقات تتحدّث عن أصول الثّوب، من أيّ مدينة وقرية فلسطينيّة مع تفاصيل عن الخيوط والألوان ومدّة العمل أحيانا.
عن هذا الثوب مثلا تقول: “55 طبة حرير، عمل استغرق 5 أشهر. الثوب الدجني -نسبة لبيت دجن وهي قرية في قضاء يافا- سيكون في المعرض. أمّا عن ثوبها الذي ارتدته يوم الافتتاح وردّا عن تساؤلات البعض عنه تقول:” هو للأمانة ثوب قديم جدا انشغل بالسبعينات من القرن الماضي، لكننا أخذنا التطريز المشغول عليه ونقلناه إلى قماش جديد واخترت تصميما مختلف عن تصميم الثّوب الأصلي، ليكون بهذا الشكل”
بالإضافة للمعلومات عن الأثواب التي تشغلها مع نساء يافا للمطرّزات، تقدّم معلومات عن الأثواب الفلسطينيّة عموما كنوع من التوثيق أو النّشر لعموم المتابعين العرب لتبيّن الثّراء في هذا الفنّ الذي تنشغل به نساء فلسطين كلّها، وتتمايز كلّ مدينة عن الأخرى ولا تخلو منه الأعراس والحفلات و”الجمعات” النسائيّة.
في المعرض منتجات عديدة أخرى غير الأثواب ولو أنّها أساس عمل مجموعة يافا. تقدّم المطرِّزات مشغولات يدويّة أخرى يحضر فيها التطريز طبعا، مثل الشالات والوسائد والستائر، إضافة للصناديق والأطباق والمناديل. كما تعرض المجموعة العديد من الاكسسوارات وفواصل القراءة ومحافظ اليد ذات الحجم الصغير. أمّا أكثر ما شدّني شخصيّا -وأنا المتابعة عبر الصور- فهي اللوحات، التي أعتبرها أعمالا فنّيّة من نوع خاصّ جدا. فمن المعتاد أن تطرّز النساء الأثواب والملاءات والوسائد حتّى عندنا في تونس وإن اختلفت التقنية والأسالب، لكن أن تكون المطرّزات لوحات فنيّة تؤرّخ للشعب وللقضيّة فهذا يحسب لصفاء سرور، التي وحسب معرفتي بها لا تترك سبيلا لنشر قضيّة شعبها إلّا وتسير فيه شرط أن يكون محافظا على كرامتها وشعبها ولا تطبيع ومداهنة فيها. هذه المرأة حتّى في أعمالها قاطعة كالسيف، لا تحتمل خياراتها التفكير مرّتين ولا تتوقّع أن ترى في مشغولاتها ما حوله بعض ريبة.
أحد أجمل أعمال صفاء سرور في رأيي والتي استهلكت من جهدها ووقتها سنة وثلاثة أشهر لوحة لقصيد الشاعر المصري أمل دنقل “لا تصالح” طرّزت أبياتها حرفا حرفا بطريقة تجعلك لدقّتها تظنّ أنّها مرسومة بالألوان. لوحة لشهيد فلسطين وأب الأدب الفلسطيني المقاوم غسان كنفاني كانت حاضرة أيضا في معرض “خيط وحكاية”، بالإضافة لخريطة فلسطين التي تعدّدت الخطوط والرسوم التي زيّنتها بين زهر وقلوب، فلسطين التي تطرّزها كلّها من النهر إلى البحر ومن أم الرشراش حتى رأس الناقورة، قرية قرية ومدينة مدينة ومرجا مرجا. من الجدير بالذكر أنّ هامة أبو حلتم، ابنة صفاء هي التي تقوم بانجاز الرسوم على القماش قبل تطريزها. فيما رافق اليوم الأوّل من المعرض حفلة موسيقيّة أحياتها فرقة “روح تريو”، وأحد أعضائها غسان أبو حلتم، ابنها البكر.
شهد معرض “خيط وحكاية” إقبالا جيّدا حسب ما عاينته عبر صفحات التواصل الاجتماعي يجعله ناجحا كمعرض ثان غير مدعوم من أيّ جهة. حضرته وجوه فلسطينيّة معروفة مثل الكاتب ابراهيم نصر الله وآخرون. كما طالب العديد من المتابعين بإقامة معارض في مدن أخرى في الأردن ويلحّ عليها بعض التونسيين للتفكير بمعرض في تونس أيضا، وأنا منهم. تعتزم صفاء إحداث نقلة في أعمالها لمعرضها القادم، إذ تنوي أن يكون مخصّصا لأعمال ريشة فلسطين المقاومة ناجي العليّ تخليدا لذكراه ومزيدا من ترسيخ نهجه الذي تخبر عنه رسوماته. مشروع إن دلّ على شيء فهو يدلّ على خطّ تنتهجه صفاء سرور وفريق يافا للمطرزات الفلسطينيّة، أساسه اعتزاز بالهويّة الفلسطينيّة وذود عنها بالخيط والإبرة، فالتطريز فعل مقاومة.
زوروا معنا المعرض في صور:
الصور من صفحات صفاء سرور، يافا للمطرزات الفلسطينيّة ومعرض خيط وحكاية، مع الشكر لهامة أبو حلتم التي مدتني بالكثير منها. اضغط الصورة الأولى لتشاهدها بالحجم الكامل وتتصّفح باقي المجموعة.
اضف تعليق