من الأمور التي يراها الناس غريبةً فيَّ هي محبّتي للغراب، وتفضيله على بقية الطيور، رغم النظرة السوداوية السائدة عند الكثير من الأمم عن الغراب كطائرٍ يجلب الحظ السيء. ومن الأمور التي أراها غريبةً فيهم تدخّلهم في أذواق الآخرين، واستمرارهم في الإيمان بخرافاتٍ جاهليةٍ لا أصل لها ! وهذا المقال ليس علميًا بقدر ما هو جزء من مذكّراتي ووجهة نظري الشخصية.
منذ صغري وأنا مدمنٌ على البرامج الوثائقية، وخصوصًا برامج الحياة البرية والبحرية. وقد شاهدتُ برامجَ عن الغربان، وعرفتُ أن الغربان تنتشر في جميع أنحاء العالم تقريبًا، ويوجد منه أكثر من ثلاثين نوعًا، منها السيء المأمور بقتله، ومنها غير المؤذي. ويُسمّى بعدة أسماءٍ كالزّاغ والأسود والغداف. ومن خلال متابعتي لعدة حلقاتٍ عن الغِربان وجدتني أنجذب نحو هذا الطائر المميز، وهنا شيءٌ من التوضيح.
1- لماذا أحبّ الغراب؟
- هو المعلِّم الأول للبشر على الأرض، فكلنا يعرف قصة قتْل قابيل لأخيه هابيل، ومن ثم بَعْثُ الغراب ليُري قابيل كيف يدفن أخاه. قال تعالى : { فبعثَ الله غرابًا يبحثُ في الأرض ليريهُ كيف يواري سَوأة أخيه } (المائدة: 31).
- يُعتبر الغراب من أذكى الطيور وأكثرها نباهة. حُكيَ لنا في المدرسة أن غرابًا نزلَ على جرة ماءٍ ليشرب منها بعد عطشٍ شديد، وكان منقاره لا يصل إلى الماء القليل في الجرة. فكَّرَ ثم هداهُ تفكيره إلى إلقاء الحصى في الجرة، فارتفعَ الماء وشربَ وارتوى. ومن أذكاها غراب كاليدونيا الذي يستطيع صناعة أدوات تساعده في أموره.
ومن نباهته أنه لا ينسى وجوه البشر أو أصواتهم، وهذا ما يسهِّل عليه شن غاراته الانتقامية على من يؤذيه منهم. ذكرَ لي ابن عمي أن جارًا له أخذَ فرخ غراب، ومن لحظتها وأكثر من ثلاثين غرابًا تهاجم ذلك الفتى حتى أرجعَ الفرخ، واستمرت الغربان لفترةٍ تهاجمه حتى شَفَت غليلها منه. ومن الجدير ذكره أن الغراب عنيفٌ جدًا في ردة فعله.
ومن ذكائه أيضًا معرفته قدر نفسه، فالغراب ضعيفٌ مقارنةً بالصقور والنسور، وليس ذلك جُبنًا، ولهذا فإن الغربان تعيش في مجموعاتٍ ضخمةٍ قريبةٍ من بعضها البعض، وتُسمى المجموعة منها بالمجثم. وبعيد غروب الشمس تبدأ الغربان بالنعيق إيذانًا بضرورة رجوع كل غرابٍ لعشه قبل خروج طيور وحيوانات الظلام.
- الغراب كائنٌ اجتماعي، فعلى الرغم من وجود الكثير من الأنواع، إلا أنهم لا يمانعون العيش في مجاثم مع بعضهم البعض. لكنهم يضعون ضوابط لإقامة الغربان من أنواع مختلفة مع بعضها. فالعلاقة هنا فقط علاقة حماية ومساندة، ولا يدخل في ذلك مسائل التغذية أو بناء الأعشاش أو التزويج.
- تُعتبر الغربان من أوفى الطيور وأكثرها منطقية. فيتزوّج الغراب بعد بلوغه أربع سنواتٍ تقريبًا، ويبقى مع زوجته طوال الحياة ولا يتزوج عليها.ومن مظاهر الوفاء في حياتهما أن الذكر لا ينظر لأنثى أخرى، وهي بدورها تفعل المثل وتضرب أي غرابٍ يقترب منها. يتركها فقط في حالتين :
الأولى: إذا باضت الأنثى ولم تفقس البيضات فإنهما يفترقان ويبحث كل منهما عن زوجٍ آخر في اتفاقيةٍ منطقيةٍ طائرية -على وزن إنسانية- وذلك للحفاظ على الذرية.
الثانية : إذا ماتت شريكة الحياة أو مات شريك الحياة.
- الغراب حَيِيّ، فهو من الكائنات الحية النادرة -كالإنسان- التي تستترُ عند الجِماع.
- يتميّز الغراب بذوقه الرفيع أحيانًا في انتقاء الثمار، لهذا قالت العرب : وجدَ تمرة الغراب.
- للغربان نظامٌ قضائيٌ محكَم، فهي تعيش في مجموعات بين النوع الواحد، أو في مجاثم مع أنواع أخرى، ولابدّ لهذه التجمّعات من قوانين تحكمها. منذ سنواتٍ شاهدتُ برنامجًا عن القضاء عندهم، حيث إنه عند ارتكاب جريمةٍ يصطفُّ ثلاثة غربان كقُضاة، ويقف أمامهم الغراب المذنب، ثم تعرض جريمته يتبعها الحكم ثم التنفيذ من قبل غربان المجموعة. من تلك الجرائم سرقة طعام غرابٍ آخر، وعقوبتها نتف ريش المجرم. والاعتداء على عش غرابٍ آخر، وهنا يحقُّ للغراب صاحب العش قتل الغراب المقتحِم. وكذلك اغتصاب أنثى غرابٍ آخر، وعقوبة ذلك الضرب بالمناقير حتى الموت.
الطريف أنه بعد يومَينِ تقريبًا من مشاهدتي لتلكَ الحلقة شاهدتُ على سطح البرج المجاور لنا ثلاثة غربانٍ تقف على هوائي التلفاز “الأنتين” ويقف أمامهم غرابٌ واحدٌ على أنتين آخر أخفضُ من أنتين الثلاثة. وقاموا بالنعيق المتبادل، وفجأة طارَ الغراب الواحد وتبعهُ سربٌ من الغربان، واختفى المشهد هنا عن ناظري. لا أدري هل كانت محاكمةً حقًا، أم مجرد صدفةٍ وعقلي الباطن خيَّل لي ذلك بسبب البرنامج الذي شاهدتهُ قبل يومَين !
- الكثير من الغربان تُعتبر صديقة الفلّاح. فهي تساهم في أكل الآفات والديدان التي قد تضر بالنباتات. وبعضها ضارٌ بالفلّاح كالغراب الأبقع، وهو الغراب الأسود ذو الصدر الرمادي، فإنه يغير على المزروعات، ويؤذي الطيور الداجنة، ويعتدي على البشر بسببٍ وبدون سبب، ويُعتبر ناقلًا جيدًا للأمراض. ولهذا أمرَ النبي صلى الله عليه وسلم بقتله.
- لونه الأسود يصنع له هيبةً في نظري.
- الغراب آيةٌ من آيات الله عز وجل، فعندما يفقس الفرخ المُسمّى بالنَعّاب فإنه يكون مكسوًا بالريش الأبيض، وهنا يستنكره أبواه ويتركانه دون إطعامه، فيرزقه الله بحشرةٍ تأتي وتقف على منقاره، فيشم ريحها فيأكلها. وبعد أيامٍ يبدأ الريش الأسود بالظهور فيأتلفه والديه. وهذا دليلٌ أن الله عز وجل يرزق من يشاء بغير حساب.
فراخ النعّـاب
2- سلبيات الغراب :
لاشكَّ أن الكمال عزيز. ورغم مزايا الغراب إلا أن له سلبيات لا يمكن غضّ الطرف عنها، ومن ذلك :
- يأكل الجيف، وإنْ كان هذا جيدًا في حق البيئة، إلا أنه منقصةٌ في حق الغراب.
- صوته مزعجٌ مقارنةً بالطيور الأخرى.
- أغلب أنواعه تؤذي الطيور والحيوانات الأخرى.
- انتقامهُ عنيفٌ جدًا، فهو عندما يريد الانتقام من الإنسان فإنه يختار أعزُّ ما عنده لاستهدافه؛ العَين.
- يميل لسرقة الأشياء اللامعة. ومن غرائبه أنه يسرق قطع الصابون دون سببٍ يُذكر، ربما مجرد عربدة !
- ينقل العديد من الأمراض للطيور والحيوانات الأخرى، وأحيانًا للإنسان.
من هذه الأنواع المؤذية : العَقعَق، وهو غرابٌ لون صدره أبيض، يوجد في أوروبا وأستراليا وغيرهما. وغراب البَين، الموجود في وسط وشرق أفريقيا، ويسكن المرتفعات. والأبقع، وهو الموجود في جزيرة العرب والشام وغيرها.
ومثل هذه الأنواع مؤذيةٌ جدًا ولا يمكن الأمان من شرّها، لهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتلها في الحديث الذي رويَ في صحيحَي البخاري ومسلم : “خمس فواسق يُقتلنَ في الحرم: الفأرة والعقرب والحُديّا والغراب والكلب العقور.”
العقعق
3- الغراب في التراث العربي :
- ذكرنا أن العرب تقول : وجدَ تمرة الغراب. ويُقال هذا عندما يشتري أحدهم أجود أنواع التمور. أو يقتنص فرصةً ذهبيةً من بين فرصٍ عديدة.
- من ذلك أيضًا القول : مثل الرجل الصالح والمرأة الصالحة كمثل الغراب الأعصم في مائة غراب. والغراب الأعصم غرابٌ نادرٌ تكون إحدى رجلَيه بيضاء.
- ارتبطَ الغراب ببعض الخرافات. فبعض الدجالين يستخدم الغراب في كذبه على الناس، فيدّعي أحدهم أن تعليق منقار الغراب يقي من العَين والحسد. وكان البعض يعتقد أن الغراب لو نعقَ مرّتَين فهو نذير شر، ولو نعقَ ثلاثًا فهو نذير خير. ويظنُّ العرب، كغيرهم من الأمم، أن الغراب مصدر شؤمٍ ونحس، وذلك لأن اسمه ارتبطَ بأول جريمة قتلٍ حصلت في عهد البشر. وللونه الأسود وصوته المزعج أيضًا.
إذن فالغراب عند معظم الناس ليس طائرًا محبوبًا يمكن اقتناؤه رغم مزاياه العديدة. ومع ذلك فإننا نجد بعض الناس لا يخضعون لوجهة النظر تلك. لي صديقٌ فيسبوكي من آيسلندا يعمل مصورًا، وهو يقتني الغربان كطيورٍ أليفة. وبالمناسبة، الغِربان في شمال أوروبا من الأنواع المهذّبة نوعًا ما مقارنةً ببقيّة الأنواع. سلامٌ عليكم، ودمتُم كالغراب الأعصم.
اضف تعليق