يَغرق اللاجئون في البحر، هكذا بكلّ بساطة، يغرق اللاجئون السوريّون والفلسطينيّون السوريّون في البحر، أو ربّما يغرق البحرُ بهم، فليس ثمّة فارق كبير بين الإثنين، المُغرق والغريق، وهم ضحايا غرق الإنسانيّة الدوليّة المزوّرة. فاللاجئون الذين لم يكونوا لاجئين قبل أن يتركوا بيوتهم، والذين لم يكونوا مواطنين أصلا عندما كانوا فيها، هم غارقون قولا وفعلا منذ ولادتهم في بحارٍ من الهموم فرضتها عليهم أنظمتهم التي بدت وكأنّها قدريّة لا يمكن الوقوف في وجهها. وفي حين لم يكن أقلّ تلك الهموم تأمين المعيشة الكريمة لهم ولعائلاتهم على هوامش المدن الكبيرة وعشوائيّاتها وحتّى أحيائها الراقية، فقد كان أكبرها بالتأكيد تأمين الهروب لهم ولأطفالهم من رحى حرب قمع الثورات التي باتت تأكل الأخضر واليابس في بلدانهم إلى شاطئ النجاة، أيّ شاطئ نجاة، فيكون مصيرهم أن تتلقّفهم حيتان البحر بعد أن لفظتهم إليه حيتان البرّ بتنسيقٍ عجيب بين عصابات التهريب والعصابات الحاكمة على مختلف جهات شواطئ هذا البحر الظالم المظلوم.
والبحر، هذا الغريق المُغرق منذ الأزل، يُصبح شمّاعة تعلّق عليه السياسات الدوليّة المتواطئة أخطاءها وخطاياها نتيجة تخلّيها عن مسؤوليّاتها تجاه الشعوب الفقيرة والأقلّ حظّا. فتصل ازدواجيّة المقاييس لديها إلى ذروتها عندما يهرع جميع قادة أوروبّا وعدد كبير من قادة العالم الذين لهم علاقة بالحدث والذين ليس لهم أبدا، عندما يهرعون إلى باريس قبل أشهر للمشاركة في مسيرة التضامن والتنديد الشهيرة ردّا على الهجمات التي أدت إلى مقتل 17 شخصا على مدى ثلاثة أيام في باريس، والتي بدأت بهجوم على صحيفة شارلي إيبدو. بينما يتعامون في نفس الوقت عن رؤية آلاف الضحايا الآخرين على البرّ المقابل وفي البحر القريب، ويديرون الأذن الصمّاء عن سماع صراخ الغرقى الموشكين على الهلاك واستغاثاتهم، فيكون أقصى ما يفعلونه حسب الخطّة التي وضعها الاتحاد الأوروبّي: مضاعفة حجم مهمّة البحث عن المهاجرين غير النظاميين التي يقوم بها في البحر المتوسط إلى ثلاثة أمثالها، وزيادة الميزانية المخصّصة لعمليات مراقبة الحدود البحرية وإنقاذ المهاجرين إلى تسعة ملايين يورو شهريا. وذلك حسب القمّة الطارئة التي عقدها زعماء الإتّحاد في بروكسل يوم الخميس 23/4/2015 بعد أربعة أيام من غرق ما قد يصل إلى 1000شخص أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا من ليبيا.
ولكنّنا لم نعرف بعد فيما إذا كانت عمليّات الإنقاذ تلك تتمّ قبل غرق المهاجرين أم بعدها، فبينما أكّدت ألمانيا استعدادها لوضع سفينتين في تصرّف المهمّة، فقد تعهّدت جارتها فرنسا بوضع سفينتين أيضا بينما اكتفت بلجيكا بتخصيص سفينة واحدة لنفس الغرض، ولكن الطامة الكبرى أتت فيما قاله سفير فرنسا في الأمم المتحدة فرانسيس ديلتر، حيث صرّح أنّ بلاده سوف تطرح على مجلس الأمن الدولي مشروع قرار يجيز تدمير قوارب تهريب المهاجرين غير النظاميّين في البحر الأبيض المتوسط قبل ملئها بالمهاجرين، (بمعنى أنّنا لن نرحمكم، ولن ندع رحمة الله تنزل عليكم).
وفي حين ذكرت المفوضيّة العليا للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين أن تطمينات الإتّحاد الأوروبّي تعني أنّ العمليّة ستملك قدرة وموارد ونطاق العمليّة البحريّة الإيطاليّة “ماري نوستروم” التي انتهت فعاليّاتها غير المجدية قبل ستّة أشهر، فقد قال المتحدث باسم المفوضية إدريان إدواردز في إفادة صحفية إنّ المفوضيّة ترى أن ما قام به الاتحاد الأوروبي خطوة أولى مهمّة باتّجاه عمل أوروبي موحّد، وأضاف إنّ المحكّ هو تناقص أعداد الأشخاص الذين يفارقون الحياة والوصول الفعّال إلى الحماية في أوروبّا دون الاضطرار إلى عبور البحر المتوسّط ووجود نظام لجوء أوروبي مشترك فعّال ينفّذ بالفعل التزام الاتحاد بالتضامن وتقاسم المسؤولية.
في رأيي أنّه هنا يكمن بيت القصيد، وهو ألاّ يضطرّ طالبو اللجوء والحماية إلى ركوب البحر للوصول إلى شواطئ الأمان، وهذا لن يحصل إلاّ عندما تضطلع الدول صاحبة القرار بمسؤوليّاتها الأخلاقيّة تجاه البشر الذين فقدوا كلّ شيء، كلّ شيءٍ تماما، سوى الرغبة في الحياة. وإلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا، فليس لأولئك البشر سوى غضب البحر الذي لا يضحك أبدا، فالحكاية في أصلها قمّة في التراجيديا، ولا تبعث على الضحك أبدا.
اضف تعليق