في المجتمع الرأسمالي، لك مطلق الحرية في أن تموت جوعا وأنت تعزف في الشارع، أو أن تكون فنانا بالمقاييس المطلوبة من قبل السلطة. فإمّا أن تستجيب للقيود أو تعود إلى الشارع لتموت جوعا. في مقابل هذا، التحرر الطبقي هو أيضا تحرر فني وثقافي بالضرورة. إن الانتاج الفني العربي يخضع لهذ الشكل من السّيطرة، حيث يتم عرض العديد من الأعمال الفنيّة الضعيفة، بحكم أنها مثيرة ونافعة لتشويه الوعي العام. فعلى سبيل المثال: الأعمال الفنية -المسلسلات التاريخية خاصة- في شهر رمضان تدعو كلّها للعودة للماضي وتقديس رموز تاريخية وتأليهها. محاولات لطمس الحاضر المختلف كليا عن تلك الحقبة. فالإنسان العربي اليوم عندما ينظر إلى الخلف، يتوقع بأنه سيكون إمبراطورا بعد مشاهدة هذه الأعمال، بينما لا يعلم بأن تلك المجتمعات تعجّ بالعبيد والفقراء والمهمشين. إذ يتم تسليط الضوء على القصور، الفتوحات وأخلاق السلاطين، فلا يتأمل الفرد الحقيقة خلف تلك الدوافع وحقيقة البنية الاجتماعية ونتاج تلك الحقبة من الدمار والإفقار والقمع السياسي والفكري.
عندما ننظر إلى الانتاج الفني المعاصر للفيلم والمسلسل الخليجي، ننظر إلى تسليط الضوء على الإشكاليات الاجتماعية كما لو أنها اشكاليات تخرج من العدم، وليست نتيجة حتمية لمجتمعات تحكمها ظروف تجذّر هذه الاشكاليات عبر الاستبداد السياسي والاستحواذ الاقتصادي والتمييز ضد المرأة وكل مستويات الهيمنة. فالجريمة لها دوافع، يُخفيها الفن السائد عبر التشفير المزدوج لحقيقة العلاقات الاجتماعية المتباينة في هذه المجتمعات. إذا، هل نُلغي القديم؟ لا ليس بالضرورة، أبدا .. لا ندعو لذلك. فلقد كتبت سيناريو صاخبا قبل عدة سنوات، هو عبارة عن تجديد للرواية الإغريقية التي تتحدّث عن القرصان والاكسندر المقدوني تشرح الفارق الكبير بين نتاج النهب لدى القراصنة والنهب المنظّم لدى الإمبراطور -فارق كمّي ونوعي- ولكن الأوّل شرعي والثاني جريمة ضد القانون. كتبت السيناريو وأسقطت المشهد على زمن الخلافة، ولو تأمّلنا ذلك السيناريو لوجدنا العديد من الإسقاطات التي لا علاقة لها بالخلافة، بل هي تعني اليوم .. تعني الآن .. تعنيننا نحن!
يتأوّه أديب مغترب في مجتمعه قائلا: “أين الشعر؟؟ أين المسرح؟؟؟ أين الفن ؟؟ أين الموسيقى؟؟”. الشعراء يعتاشون من التكسّب عبر المؤسسات الموجودة تحت إدارة الطبقة الحاكمة أو التكسّب المباشر في البلاط أحيانا، حيث لا يوجد مهنة للشاعر، ولا يوجد مهنة للفنان، فلا يمكن أن نتوقع من الفنان أن يكون فنانا إذا لم يحصل على المتطلبات الأساسية للعيش. فمنظومة الإفقار المادي، هي أيضا إفقار فنيّ للطبقة العاملة التي تُشكّل أغلبية المجتمع اليوم، ومنظومة الإفقار الاقتصادي هي أيضا منظومة إفقار معرفي. إذن أين نجد الفنّانين؟؟ إنهم مخلوعون تماما عن الانتاج الحقيقي والفعلي، وهذا يعود إلى ما شرحه ماركس بإسهاب في كتابه رأس المال حين حلل علاقات “تقسيم العمل”. فالعمل هنا مفكك ومُقسّم، كي يتم انتاجه بأسرع وقت من دون أن يعرف العامل أي شيء عن نُظم اتخاذ القرارات وإدارة الانتاج. ومع كل هذه العوائق، نجد أن الرأسمالي أو الإدارة التنفيذية تغيب في شركة أو مؤسسة أو حتى جامعة، بينما العمل لا ينقطع ولا يتوقف. إلا أن هؤلاء المنتجين لا يملكون أدنى فرصة لإنتاج أي شيء أو تقرير أي شيء خارجٍ عن مهامهم التي أوجدها ربّ العمل. إنه لقمع منظّم للقوى الإنسانية المنتجة والمبدعة وإجهاض كل أنماط الإبداع الفردي عبر الاستغلال الجمعي وتحويل الإنسان إلى آلة.
إذن، ما دام الوضع هكذا أين الديالكتيك؟! أين التناقضات التي تحدّث عنها الماركسيون؟ بالرغم من هذا، يبقى أن الانسان ليس آلة صمّاء بمعنى الكلمة، ولا هو يعيش خارج التأثيرات الاجتماعية والطبقية. بل هناك تناقض، وهناك حراك، وهناك جدل بين نُظم السيطرة وأطيافها المختلفة وبين المضطهدين والمنفيين عن ملكية الانتاج المادي والفني. وكلمّا احتد الصراع الطبقي، احتدّ أيضا الانتاج الثوري، لذلك نرى غانم السليطي الذي أبدع في مسرحية أمجاد العرب، عندما وصف الحالة العربية من قبل الأعداد الكبيرة من البشر التي تتابع قناة الجزيرة، بينما لا يوجد حرية حقيقية في ذلك البلد الذي يدّعي الديمقراطية. فوصف حالة شخص تونسي سمع بأن قطر لديها قناة الجزيرة فهي إذن موطن للحرية، فقال في مطار قطر: “أريد أن أؤسس حزبا سياسيا”، فكانت ردة فعل السلطات عنيفة في المسرحية. توغّل بعدها الفنان في تاريخ الخليج والتحوّل الاجتماعي ما بين الحقبتين -ما قبل النفط وما بعده- وكيف أن منظومة الإفقار لم تنته، مع زيادة الثروات الهائلة التي بإمكانها أن تصنع من الفقر مهزلة علنيّة إلا أن الفقر مستمر ونفوذ العوائل المهيمنة مستمر أيضا عبر الهيمنة على الانتاج والاحتكار.
هناك أعمال كثيرة تم منعها عبر الرقابة التي لا تسمح إلا بأعمال قليلة للعرض. إلا أنه كلما اشتد الصراع، اهتزّت نُظم الرقابة. لذلك وجدنا أن الفوارق الكبيرة بين الانتاج العربي والخليجي ليست مجرد فوارق في الذهنية المجردة للفنان بل في مكتسبات الحركة الجماهيرية في فرض إرادتها على السلطة، عبر تاريخ من الاحتجاج والنضال ضد الطبقة الحاكمة. لهذا لا يحلم الخليجي بمسرحية كمسرحية الزعيم، بينما تاريخ مصر حافل بالنضال والحراك الميداني والانتاج الفني. إن هذا الجدل لا يعني بالضرورة نتائج مباشرة إذ توجد نماذج كثيرة لنتائج غير مباشرة. انهيار منظومة العبودية مثلا، لم يكن بفضل حدّة الصراع الطبقي محليا، بل بالتأثير العالمي وانتصارات النضال خارج الأقاليم المحلية. فالتأثير يصل بصور وطرق مختلفة مثل تأثير الربيع العربي على الخليج، ونتاجه هنا ليس مجرد إلهام للحراك الثوري، بل أيضا نتاج فني وذعر طبقي من قبل البرجوازية والطبقة الحاكمة للتنازل بأية وسيلة كي لا تفقد شرعيتها ولا يصلها السيل الجارف.
إنّ زيادة الثروات الهائلة للبرجوازية السعودية، وزيادة الفقر في نفس الموطن، والجدل بين الأولى والتالية، أدى أيضا لانتاج فني من المقاطع المختلفة عبر اليوتيوب، عبر فن السخرية، والأفلام القصيرة، والرسومات على الحيطان (الجرافيتي)، وغيرها من أنماط الانتاج الفني وإن اختلفت مستويات الجمال ودرجات الاتقان. لكن من الأمثلة الجديرة بالاهتمام الفيلم القصير مونوبولي. كما أنّ لوحات الفنان زمان الجاسم يعبّر فيها الفن التشكيلي بصور مختلفة تختلط فيها الأبجدية بالرمز وكأنها موسيقى عن وجود شيء آخر، طائفة أخرى، هوية أخرى، بحاجة للخلاص من النظام الطائفي المستبد. لا يرسم الفنان القطيفي زمان الجاسم وحسب، بل يستخدم اللحام ويعمل على مختلف المواد، ليشكّل فنا مختلفا يصل فيه إلى أعلى مراتب الجمال، ويُبرز فيه الهوية والاغتراب والألم الذي يشعره الفرد في هذا العالم. أما الشّاعر المعتقل عادل اللباد، فقد أبدع في قصيدته: “قل للطغاة” بطرح جريء يُخلّد فيه الحراك في القطيف ويساهم في تأجيجه بأسلوب مباشر لا يخلو من الصور الجماليّة. كما نشر أيضا ديوانا بعنوان: غضب البحر، تمتزج فيها العاطفة والطبيعة بالثورة على الطغيان والاستبداد. إنّ السعودية لا تخلو من نماذج كثيرة للفن المغمور، والفنانين المقموعين من قبل النظام من بينهم المصوّر الرائع حبيب المعاتيق الذي مزج بين الشعر والصورة واعتقل من قبل السلطات المحليّة كذلك.
- الصورة المرافقة للمقال للفنان القطيفي زمان الجاسم من مشروع فني له استعمل فيه الأطباق الهوائية.
اضف تعليق