هذا الكتاب الذي صنّفهُ جيفارا نفسه، وترجمهُ كل من الدكتور فؤاد أيوب، والأستاذ علي الطود، يؤرخ لمرحلة الثورة الكوبية ابتداءً من الانطلاق الفِعلي للثورة سنة 1956، وحتى انتصارها سنة 1959 على نظام باتيستا الديكتاتوري الذي حكمَ البلاد بعد انقلابٍ عسكريٍ أبيضٍ سنة 1952.
كانت ظروف الثورة الكوبية منذ بداياتها صعبةٌ جدا. فكان هناك نقصٌ في الطعام والشراب والأدوية والألبسة والأسلحة. وقد تحمّلها بعض الرفاق، ولم يتحملها البعض الآخر. فكانت فرقة الثوار في بداياتها تشهد دخول مستجدّين، وتشهد كذلك خروج قدماء. شهدت الثورة في بداياتها عدة أخطاءٍ لم تكن بالحسبان لنقص الخبرة عند معظم الرفاق، إلا أن الحلم باسقاط المنظومة الديكتاتورية الباتيستية كان دافعهم للتمرّس على أمور القتال والعِلاج والأمن والإعلام -من المعلوم أن الشيوعيون يسمون عناصرهم بالرفاق. جيفارا كان يسميهم أيضا بالأنصار- . كما أن الثورة شهدت عدة خياناتٍ من رفاقٍ لم يتشرّبوا بعد الفكر الثوري، وكان إغراؤهم بالأموال سهلا نظرا لفقرهم. وكانت عقوبتهم شديدة جدا وقاسية. وبعد اشتداد عود الثوار حاول البعض استغلال الثورة لمصالحه الشخصية، وارتكبت عدة جرائم من قبل بعض الثوار. ورغم تواضع سلاح الثوار أمام سلاح النظام إلا أن المظلوم دائما أقوى من الظالم بدافع إيمانه بمبادئه وحريته.
واجه جيفارا بعض الصعوبات في بداية الطريق نظرا لكونه أرجنتينيا -من الجدير ذكره أن أصوله إيرلندية-، ولكن هذه الصعوبات تلاشت مع الطريق، حيث إن إسقاط الظلم واجبٌ على كل إنسانٍ بغض النظر عن دينه أو عِرقه أو قوميته. يقول جيفارا : عرَّضَ فيديل كاسترو ثورته -قبل بدءها- لخطرٍ جسيم، حيثُ إنني كنتُ أجنبيا أقيم سرا في المكسيك. وطلبتُ منه إرسالي إلى أي بلدٍ مجاور. لكنه رفضَ وقال: لن أتخلّى عنك. (ص10). إن علاقة الصداقة في التنظيمات الثورية قد تحلُّ محل علاقة الآمر والمأمور في الجيوش النظامية الديكتاتورية. وهذا ما يسبب تماسك الثوّار. حيث يشعر كل منهم أنه يقاتل من أجل قيمٍ أعلى بكثيرٍ من القيم التي يقاتل من أجلها الجيش النظامي الديكتاتوري. أظن أنه وقت ارتفاع نسبة الأدرينالين في المواقف الخطرة أن العقلَ يتوقّفُ عن التفكير عند الكثير من الناس. يقول جيفارا عن أول المعارك التي خاضها الثوار ضد جيش الديكتاتور باتيستا: “هذه الفوضى التي تجلت في مواقف كثيرة بعضها مبكٍ وبعضها مضحك. كمشهد الرفيق البدين الذي أرادَ الاختباء خلف قصبة سكر. والرفيق الآخر الذي طلبَ منا أن نسكت في غمرة ضجيج الطائرات وأزيز الرصاص، دون أن يعرف هو نفسه معنى طلبه.” (ص 17).
ألقى فيديل خطابا في الرجال.. ثم أعلنَ أن الاعدام سيكون العقاب الرادع لثلاثة أنواع من المخالفات : التمرد، والفرار، والانهزامية! لطالما كانت الحركات الثورية شديدةً جدا في التعامل مع عناصرها، خصوصا في مراحل التكوين التي تكون فيها نتيجة الخطأ الواحد أضعاف نفس الخطأ في ظرفٍ آخر. أجرى جيفارا تحقيقا غير كافٍ مع أحد الثوار بتهمة الخيانة، انتهى بإعدامه. واستخدم الحيلة مع غيره، فقد أوهم ثلاثة بالإعدام كعقوبة لهم (ص173). إن المحاكم الثورية غالبا ما لا تتميز بنسبة عاليةٍ من العدالة، فالعديد من الحركات الثورية كانت تقتل الشخص لمجرد الشك فيه. إلا أنهم قد يُعذَرون بحكم حساسيّة ظروفهم التي لا توفّر مناخاً ملائماً لإجراء محاكم بشكلٍ قانونيٍ تأخذ وقتها في التحقيق قبل إصدار الحكم. قال جيفارا بعد انتهاء معركة أوفيرو: يجب الاعتراف بأن كلا الفريقَين قد أتى ضروبا رائعةً من البطولة (ص103). وهذا يدلُّ على إصرار كل طرفٍ على الثبات على موقفه. فجنود النظام كانوا يعتبرون أنهم يقاتلون عُصاةً وقُطّاع طرقٍ كما وصفهم رئيسهم باتيستا. وجنود كاسترو كانوا يقاتلون جنود نظامٍ ديكتاتوريٍ ظالم. ويدلُّ أيضا على وجود الإنصاف عند جيفارا، فمن المعروف أن معظم الأطراف المتحاربة تتهم الآخرين بالجُبن والخَوار.
من الإنجازات الجيدة للثورة أنها صادرت أملاك الإقطاعيين الذين كانوا ينمّون ثروات طائلة على حساب مجهودات الفلاحين البُسطاء. ومعظم هؤلاء الإقطاعيين تركوا كوبا بعد انتصار الثورة، فلم يكونوا متعلقين بأرضٍ ولا بوطنٍ ولا بشعب ! (ص111). كانَ دور المرأة حاضرا في الثورة، وإن جيفارا لم ينسَ أن يخصِّصَ فصلاً للحديث عن الثائرة ليديا، التي دفعت بابنها الوحيد الى صفوف الثوار، وكانت تتولى مهمة الاتصالات هي ورفيقتها كلودوميرا. (ص 113-116). رغمَ أن بيان لاسييرا 1957 الذي أصدره بعض الثوار ومنهم كاسترو نصَّ على ضرورة تسليم منصب رئيس الجمهورية إلى شخصية مدنية، والتشديد على ضرورة عدم تسليمه لشخصية عسكرية(ص127)؛ إلا أن فيديل كاسترو نفسه حازَ المنصب، وبعد مرضه حازهُ أخوه راؤول. وهذا حقيقةً يحصل عند غالبية الثورات في الأوطان، إنْ لم يكن كلّها !
قادَ كاسترو هجوما ضد الجيش النظامي في منطقة لاس كويفاس. أثناء هذا الهجوم قُتل الشاب الرفيق أوليفيا، وهو ابنٌ لملازمٍ في الجيش الديكتاتوري (ص144). وكان معهم في صفوف الثورة ابن أخ أحد وزراء باتيستا، الذي ارتد على أعقابه فيما بعد (ص161). إن الصراع بين الحق والباطل، بين الظالم والمظلوم، يؤدي في كثير من الأحيان إلى ضرورة التخلّي عن الكثير من الأشياء، والكثير من الأشخاص ولو كانوا من أقرب الأقربين. هل من السهل مواجهة والدكَ أو أخيكَ أو ابنكَ إن كان قد ارتضى على نفسه الاصطفاف مع القوة الظالمة؟! رغم الظروف الصعبة التي كانت تواجهها الثورة في مرحلة اشتداد عودها، كالضغط الشديد من قبل جيش النظام، وارتكاب بعض الثوار جرائم نُسبت للثورة، وصعوبة تثقيف الفلاحين سياسيّا؛ إلا أن قادة الثورة استمروا في مسيرتهم لانشاء وطن حر وشعب حر (ص171). خوليو إيغليسياس، فتى لم يتعدَّ السابعة عشرة من عمره، كان يحمل رتبة ملازم، ويقود رجالاً أكبر منه بضعفَي عمره (ص177). في الجيوش الثورية تعتمد مسائل الرتب على الولاء للثورة، وعلى الكفاءة. عكس الجيوش النظامية التي تعتمد فيها الرتب على عدد سنين الخدمة.
اهتمَّ قادة الثورة بالإعلام جيدا. لقد استخدموا آلة طابعة قديمة ليطبعوا عليها الأعداد الأولى من جريدة الكوبي الحر الناطقة باسم الثورة (ص177). كما قاموا بإنشاء محطة إذاعية صغيرة في البداية، ثم تمّ تعميمها على أجزاء واسعة من كوبا (ص186). “إن صاحب القوة هو الذي يُملي استراتيجيات المعركة.” (ص182). هكذا قالَ جيفارا في معرض حديثه عن الحراك السِّلمي الذي قامت به حركة 26 تموز. واقع التاريخ يثبت أن الشعوب لم تتحرر من الظلم والجَور إلا بالتضحيات بالدماء والأموال والجُهود. أما السلمية في وجه بطش الآلة العسكرية فهو أمرٌ غير منطقي. وما حصلَ من تنازل الإنجليز أمام حراك غاندي السلمي كان فقط من باب دفع ضرر أعظم بضرر أخف وذلك حصلَ حين بدأت مجاميع مسلمة تشكل خلايا لجهاد المحتل الانجليزي. ومن الحدير بالذِّكر أن بريطانيا احتضنت غلام أحمد قادياني الذي كان ينظِّر أن الانجليز أولياء أمور، ويحرم الجهاد ضدهم.
عند بدء معركة سانتا كلارا “الهجوم الأخير” كان تِعداد قوات الجيش النظامي 10000 جنديٍ مدجّجين بالسلاح، الخفيف والثقيل. مقابل 800 ثائرٍ تقريبا، يمتلكون 200 بندقية فقط بحالةٍ جيدة! ومع ذلك فقد تكبَّد الجيش النظامي خسائر فادحة، فقد فقدَ 1000 جنديٍّ ما بين قتيلٍ وجريح. بالإضافة إلى 450 أسير سلّمهم الثوار لمنظمة الصليب الأحمر. وغنمَ الثوار 600 قطعة سلاح، بينها دبابة ومدافع مورتور (ص 208). إن المقاتل العقائدي الذي يقاتل لشيءٍ أسمى من المال والرتب والمناصب، أيا كانت عقيدته، فهو مقاتلٌ جَلدٌ ليس من السهل هزيمته.
حصلت معارك مثل هذه المعركة في هذا الزمان، أشهرها معركة الفلّوجة في العراق، حيث صمدَ 250 مجاهدا ضد أكثر من عشرين ألف جنديٍّ من المارينز. وقد انسحبَ الغُزاة مدحورين بعد أن لاقوا شجاعةً باسلةً من المجاهدين. ذلك أن الجيش الأمريكي كان غازيا لا يملك عقيدةً تؤهّله للوقوف بوجه من باع نفسه لله ولتحرير البلاد والعِباد من هذا المحتل الدنيء. ومثلها أيضا معركة فتح الموصل، حيث لم تصمد قوات الجيش النظامي المؤلفة من قرابة الثلاثين ألف جنديٍ أمام 400 أو 500 من المقاتلين المتشددين. فقد كان سهلا على المتشددين أن يهزموا جيشا فاسدا لا يملك أي عقيدة. ولهذا أيضا نلاحظ أن معارك المتشددين مع الأكراد تطول أكثر من غيرها، لأن كِلا الخصمَين يملك عقيدةً قويةً يقاتل من أجلها. هذه العقيدة هي التي جعلت الثوار يصبرون على مشاقِّ الطريق، فقد كانوا يسيرون أثناء الحملة راجلين، وبعضهم حُفاة، وبعضهم يركب الخيول. ناهيكَ عن اضطرارهم لحمل الأسلحة والمعدّات أثناء سيرهم في المستنقعات، وتحمّلوا هجمات البعوض. وكانوا يأكلون طعاما رديئا ويشربون من مياه المستنقعات. (ص210). ثم ماذا بعد ذلك ؟! بسبب صبرهم وثباتهم استطاعوا أن يحققوا أهدافهم ويسقطوا النظام الديكتاتوي الذي فشلت مساعي الأحزاب السلمية في إسقاطه. يذكّرني هذا بالمتشددين الذين مرَّت عليهم فترة مشابهةٌ في صحراء الأنبار ينتظرون الأمطار لتملأ الآبار ليشربوا منها، ويصطادون الأرانب والضُبّان لتكون طعامهم شبه الوحيد في تلك الفترة. قبل أن يستجمعوا قواهم ويسيطروا على مساحاتٍ شاسعةٍ ويعلنوا دولةً لهم.
بعد انتهاء الحملة وهزيمة الجيش الديكتاتوري تمَّ تعيين فيديل كاسترو رئيسا لوزراء الحكومة المؤقتة، مما فتحَ صفحةً جديدةً في كتاب تاريخ كوبا (ص218). هذه لمحةٌ عن تاريخ ثورةٍ غيرت ملامح كوبا وحرّرتها من نظامٍ ديكتاتوري. وقامت بعد استيلائها على الحكم بإجراء إصلاحاتٍ شاملةٍ شملت جميع قطاعات الدولة، خصوصاً القطاعَين الزراعي والصحي.
[…] اقرأ أيضا “مذكرات عن الحرب الثورية-تشي جيفارا” […]