من سلطوية الثابت إلى محنة المتحول، ظل الفكر العربي متحركا ضمن تخوم من الفخاخ. ومن سلطة إلى أخرى مضادة، ظل الواقع السياسي متأرجحا بين الفعل وردّة الفعل. حيث لم يتمكن من الخروج من رحم هذه الدائرة البافلوفية الضيقة. وإنما حصّنها بمزيد من الالتباس والتعصّب. ولّد هذا المشهد مستنقعا ومناخا لترعرع الأصولية، سواء كانت سلفية أو حداثية. وما يجري اليوم، ليس تخطّيا ولا تجاوزا ولا خرقا للأنظمة، وإنما هو مجرّد استنبات للأوهام، أو بالأحرى، هي لعبة مضاددة تعكس عدم قدرة المتحوّل على صدّ زمن الأصولية الأولى- الغيبية بشكل نهائي، فالتجأت هي الأخرى لخلق أصنامها وأوهامها، وهو ما سيجعلها، في حالة نشوءها وفوزها، عديمة الجدوى. غير قادرة على تأسيس مناخ بديل يلبي حاجيات الانسان.
والصورة الحالية، سواء كانت في مصر بعد مسك الجيش بزمام الأمور، وتعمده الخروج في ثوب من أنقذ البلاد الفرعونية من الظلام الإسلامي، أو في سوريا بعد أن وصل التصادم بين بشار ومعارضيه حدّ تخريب الأرض الفينيقية، أو في تونس حيث يدّعي الحداثيون أنهم أخرجوا الإسلاميين من الحكم، لكنهم لم يدركوا بعد أنهم خاضوا نضالاتهم من أجل أطماعهم ورغبتهم الجامحة في الفوز بنصيبهم من الوطن، لا من أجل شعبهم، كما أنهم لم يدركوا بعد أنّ الإسلاميين مازالوا يهندسون فخاخهم بأشكال مختلفة، وانتقال عدوى الضربات الإرهابية الى أرض قرطاج، أو ليبيا التي أصبحت تتحرّك ضمن صفيح سياسي جدّ متوتر وساخن.
لقد فشلت النخب حد هذه اللحظة في الإطاحة بأصنامهما، السماوية والأرضية، فظلت رهينة الدائرة وأقفاصها، ذلك أنها أوغلت في التنكيل بالحشود الغاضبة وصفعها بغير قليل من الأوهام، فمرة تدفعها للحرائق والموت، ومرة تشحنها بطقوس احتفالية لمواعيد هي الأخرى ذكريات من الدم والاغتصاب والاغتيالات والتفقير والخيانات والانقلابات. وكمبرر لذلك، تعتقد هذه النخب، أنه لا يمكن للحشود أن تمارس غضبها دون سحر الرمز والأصنام، والاعتقاد في نماذج تلهمها وتدفعها للرفض والعصيان، وفي حقيقة الأمر، هي تدفعها للطاعة وخوض معارك بالنيابة لا غير. وما نراه اليوم من معارك، يعكس حجم طمسها لحقائق الصراع، لأنها في معظمها، تتحرك في مدار هجائي وتهكمي، أو في مدار من المديح لهذا الزعيم أو ذلك الشهيد.
ما تتناساه النخب اليوم، هو أن الجماهير تراكم لتجربتها، المعركة وراء المعركة، وما الصفعات التي تلقتها من الحكومات والمعارضات حد السواء، إلا درس سيجعلها تصل قريبا إلى درجة من الوعي، عبره تحسم نهائيا في هذا الفكر الأعرج، وسياسة الدجالين، كما أن درس اليوم، سيجعلها لا تؤمن إلا في قيادة تنجبها من صلبها، فهي لم تعد تتعلم إلا من تجربتها الحيّة. قد يطول قمعها لسنوات أخرى، فرحى رأس المال ما زالت تمتلك أنصالا حادّة، وتكتيكات مرعبة، وفي جعبتها ألف خائن وانتهازي، ولكن حتما، لا يكون المستقبل إلا للحاقدين على الحروب والانقلابات والجوع والفقر والعري والتشريد والتعذيب والمنفى. لا شيء يعلو فوق ارادة الثائرين دون حسابات.
اضف تعليق