أوّ ل صورة فوتوغرافية صادفتها لمحمود هواري كانت لطريق تظلله الأشجار متعانقة في مشهد بهيج. ظننتها صورة لمنطقة في أحد البلدان الاسكندنافية كثيرة الخضرة لكنّي تفاجأت إذ قرأت “مدخل قنا”. قنا، المدينة السمراء في جنوب مصر، عرفت عنها قليلا من شاعر صديق من أبنائها، عبد الرحيم طايع، خاصة عبر صوره في شوارعها بلباس أهلها الجميل “الجلابية، الشال أو التلفيحة/الملفحة على الكتف والعِمّة على الرأس والعصاية في اليد” إضافة للمسبحة التي قليلا ما تفارق أصابعه، إذا لم تكن مجموعة حول رقبته خاصة إذا كان ينشد مدائح في حضرة وليّ الله “عبد الرحيم القناوي” الشهير في المدينة. صورة هواري أضفت على الصور في ذهني بهجة وكانت فعلا مدخلا لعالم جميل بالصدق في النقل والابتعاد عن التلميع. التصوير الفوتوغرافي يصبح لا فقط انعكاسا للجماليات في المحيط بل حمّال فكرة ومبلّغ صوت غير مسموع.
حين اقترحت على المصوّر أن أكتب مقالة عنه وعن صوره، قال لي: لا أريد أن تتحدّثي عنّي، أريد أن تتحدّثي عن الذين ترينهم في صوري. هؤلاء أحقّ مني بالذكر والانتشار.”لا أعلم صدقا متى بدأ هواري هواية التصوير ولا كيف تعلّمه وهل يملك شهادة احتراف أم لا. أعلم أنّه من شباب الثورة المصريّة وأنّه ترك اختصاصه العلمي -أظنّه درس القانون- ليتبع شغفه ويكون مصوّرا فوتوغرافيا. أظنّه صعيديّا من قنا تحديدا، لأنّي ألمس فخره بالمدينة وبالصعيد وأهله عموما.
إنّ المشاهد التي تقدّمها صوره متعدّدة المواضيع، فيها الطبيعة، المعمار، البورتريه، المهرجانات، الحياة اليومية.. لكنّ الوجوه أكثر ما شدّني من بين أعماله. jذكّرني بأعمال المصوّر الروسي أندريه زهاروف Andrey Zharov والبريطاني لي جيفريس Lee Jeffries، مع فارق الخصوصيّة المصريّة طبعا والصعيديّة تحديدا. كما أنّ مصوّرنا الشاب ليس متخصّصا بعد في البورتريه مثلا، بل لا يزال يوزّع اهتمامه بين مواضيع عديدة كما أسلفت.
أقول له اختر لي مجموعة لك فلا يستجيب، ثم يرسل لي صورة فجأة ويقول “اكتبي يلّا.” يدرك أنّ فيها تفاصيل تحفّز للكتابة، ولم تكن أيّ من صوره التي يرسلها خالية من الدهشة بالنسبة لي. أستغرب دقّة اختياره اللقطة وأعيد ذلك لكونه قد تمرّس بالتصوير. صوره كما يقول المتفاعلون معها “هي دي مصر”، هذي هي مصر. وجوه الفلاّحين والعمّال والأطفال في حقول مصر وشوارعها. “الناس الشقيانة” كما يقول، أحقّ بالتصوير والشهرة. هذا الاهتمام بالطبقة الفقيرة، بالعمّال والفلاّحين والأطفال هو سرّ الشدّ في ما يقدّمه. رغم التعب والقلّة والبساطة، ستلتقط عينك كمشاهِد الجمال في كلّ مشهد وسيُمرَّر لك شعور من في الصورة وحالته حين التقاطها. ستبتسم أحيانا، ستشعر بالأسى، بالحزن.. بالفرح ربّما وبكثير من الاعتزاز والتلقائيّة الذي ستلمسه في كلّ صورة.
إذا كانت فتاة من أطفال الشوارع قد غيّرت توجّه لي جيفريس نحو تصوير وجوه المشرّدين في شوارع لندن لنقل معاناتهم، فإنّي أعتقد أنّ الانتماء للمحيط والوعي بالظلم الطبقيّ والانتصار للفقراء والكادحين هو دافع الهوّاري لتصوير وجوه “أهل البلد” في قنا وأسوان وبلاد النوبة. ولعلّ الأسطر التي يكتبها أحيانا كمرفق مع الصّور توضّح ذلك. في الآن نفسه، الكدح والقلّة لا تعني التجهّم والملامح المتعبة المتكدّرة. ستلاحظ كمّا من الفرح والبهجة، براءة الأطفال وضحكات الكبار ملأ الشفاه، الطيبة والوداعة في الملامح بين الباعة والفلاحين والشيوخ في العمل وفي أوقات المرح والانطلاق.
هذا لا يعني أنّ مصوّرنا أفضل مصوّري مصر، فأنا شخصيّا لا أعرف الكثير منهم، لكنّي صادفته ولاحظت تميّز ما يقدّمه وارتأيت أن أشارككم. أمامه طريق للتميّز، رغم كثرة سالكي طريق التصوير الفوتوغرافي هذه الأيّام. إذ يكاد كلّ من يملك آلة تصوير يعلن نفسه مصوّرا فينشئ صفحات على مواقع التواصل ومواقع الصّور. لهذا لا أظنّ المهمّة سهلة. أقام معرضا مشتركا مؤخّرا، أيّام العيد، صحيفة مصرية. وقد كانت له معارض سابقة. أرجو له التّوفيق، وأعيب عليه غياب النساء في صوره. لست أدري السبب، ربما هو طبع أهل الصعيد الغيورين على نسائهم يمنعه. لكنّي أتوقّع أنّ القِناويات والأسوانيّات، فلّاحات أو بائعات خضر أو مارّات في شوارع هذي المدن ستكنّ مدهشات إذا ظهرن في الصّور. “الصعايدة أجدع ناس”، صحيح، لكنّي أظنّ الصعيديّات “جدعات وجميلات” أيضا.
تابعوا محمود هواري على فيسبوك
مرافقة لمعرض الصور يا وابور الساعة اتناشر – عفاف راضي
اضف تعليق