“وُعَّاظ السَّلاَطِين” كتاب للباحث الاجتماعي العراقي الدكتور علي الوردي صدرت الطبعة الأولى منه سنة 1954. يستعرض الكاتب فيه الجدل القائم حول أحداث من التاريخ الإسلامي في ضوء منطق علم الاجتماع. ربما أكون قد قرأت في التاريخ الإسلامي كتبا تؤرخ بعض الأحداث أو تتحدث عنها من وجهة نظر ما، ولكن أن يُؤَلَّف كتاب يتحدث عن أحداث هامة في التاريخ الإسلامي كالفتنة الكبرى على سبيل المثال ويحللها من منظور علم الإجتماع فهذا يعتبر من وجهة نظري الشخصية إبداعا قلّما نجد له مثيلا.
الكاتب يطرح في كتابه الرائع هذا، أمورا مختلفة منها: أنّ الوعظ الأفلاطوني هو منطق المترفين والظلمة حيث أنّه يتنافى مع طبيعة النفس البشرية التي تسعى في كثير من الأحيان إلى إيثار النفس والأنانية. فلا يمكن للواعظ أن يخطب في الناس قائلا أنّ ما يعانونه من مشاكل يرجع إلى فساد أخلاقهم أو نتيجة لبعدهم عن الدين. فالإنسان تغلب عليه النّزعة الأنانية في كثير من الأحيان وهذا شيء متأصل فيه ومن الصعب تغييره، لذلك من الحريّ أن يوجّه هؤلاء الوعّاظ حديثهم إلى الحكّام يطالبونهم فيه بالعدل والعمل على مصلحة الناس بدلا من صبّ الذّنب كلّه على الرّعية، وكأنهم هم الذين يديرون دفّة البلاد إلى الفقر والبؤس. بينما قلما نجد أحدهم ينصح الحاكم أو يوجهه إلى الصواب.
يقال عن الإنسان أنّه إذا افتقر سرق وإذا اغتنى فسق. ونحن لا نستطيع أن نغيّر طبيعة الإنسان هذه بالنصيحة والموعظة. فقد يستمع لموعظتنا فرد أو اثنان أو ثلاثة. أما أكثريّة النّاس فيهم يسيرون في سبيلهم المحتوم لا يجدون منه خلاصا.
يتطرق د. علي الوردي أيضا إلى نقطة هامة ألا وهي أنّ التاريخ لا يسير على أساس التفكير المنطقي بل إنه يسير على أساس ما في الإنسان من نزعات أصيلة لا تقبل التبديل. كما يرى المؤلف أن الأخلاق ما هي إلا نتاج المجتمع الذي ينشأ فيه الفرد.
من الجدير بالذكر أن الكاتب حاول سواء بطريقة مباشرة أو بين السطور أن يرفع التقديس عن شخصيات من التاريخ الإسلامي لطالما أحيطت بهالة من القدسية دون أدنى سبب وجيه. فالكاتب يرى أنه ينبغي علينا إذا أردنا ان نتعلم من أخطاء الماضي أن ننظر للتاريخ الإسلامي بنظرة الناقد لا بنظرة المبرر الذي ينزه كل حكام وخلفاء المسلمين منذ صدر الإسلام عن أي خطأ. ويبرهن كلامه من خلال تحليل متميز للفتنة الكبرى، فطرفا الفتنة كانا من أصحاب الرسول ومن المقربين إليه ولكنهما اختلفا على الحكم. وهذا كما ذكرنا ‘طبيعة بشرية’ غير قابلة للتبديل، حتى أنّ الأمر وصل بهم الى أن رفع أحدهما السيف في وجه الآخر وتناحرا وقتل أحدهما الآخر في ظل هذا الخلاف الدموي.
يتابع دكتور علي الوردي فيتحدث عن إشكالية الرجعية أو الأصولية وكيف يربط بعض الوعاظ في أيّامنا هذه مدى تأخر الأمة الإسلامية ببعدها عن عهد الرسول والخلافة. ينتقد المؤلف هذا الرأي بشدة حيث يرى أن التّاريخ يسير دون رجعة وأنّ الخلفاء لم يكونوا على تلك الصورة المقدسة التي يحاول الوعّاظ خداعنا بها وأكبر دليل على ذلك هو الفتنة الكبرى التي حدثت بين الصحابة.
يروي البخاري في صحيحه ( أن الصحابة تشاتموا مرة أمام النبي وتضاربوا بالنعال). ويروي أيضا: ( أن النبي أمر أثناء مرضه الذي توفى فيه أن يؤتى له بدواة وقرطاس لكي يكتب للناس كتابا لن يضلوا بعده. فرفض بعض الحاضرين أن يطيعوا أمر النبي وقالوا عنه أنه “يهجر” أي يهذي. وتنازعوا فيما بينهم. فأمرهم النبي بالخروج).
الكتاب بلا شك جدير بالقراءة والتأمل وأنصح كل مهتم بالتاريخ الإسلامي أن يقرأه ويتأمل الأحداث التي يسردها الكاتب بشكل نقدي وعلمي، والكتاب في نفس الوقت شيق ومثير.
مقتطفات من الكتاب:
“لم يكن الشيعة “راوفض” في أول أمرهم ، وكذلك السنة “نواصب”. إنما هو التطرف ، أو ما أسمنياه بالتراكم الفكري، الذي أدى بهما إلى هذه النتيجة المحزنة. وإذا أرادا الشيعة وأهل السنة في هذا العصر أن يتحدوا فليرجعوا إلى شعارهم القديم الذي اتخذه زيد بن علي وأبو حنيفة، أي شعار الثورة على الظلم في شتى صوره لا فرق في ذلك بين الظالم الشيعي أو الظالم السني. إنّ هدف الدين هو العدل الإجتماعي. وما الرجال فيه إلا وسائل لذلك الهدف العظيم.”
“يرى البعض في هذا العصر أن الدين يدعو الشعوب إلى الخضوع والإستسلام لحكامهم الظالمين. وهذا الرأي ينطبق على الدين المتسأجر الذي يستخدمه الطغاة أما الدين الذي يأتي به الأنبياء المنذرون فهو دين الثورة.”
“يحاول الوعاظ أن يصلحوا أخلاق الناس بالكلام والنصيحة المجردة، وما دروا أن الأخلاق هي نتيجة للظروف النفسية والاجتماعية.
إنهم يحسبون الأخلاق سبباً لتلك الظروف.. لا نتيجة لها. ولذا نراهم يقولون: (غيروا أخلاقكم تتغير بذلك ظروفكم). ولو أنصفوا لقالوا عكس ذلك. فلو غيّرنا ظروف الناس لتغيرت أخلاقهم طبعاً.”
“لقد صار الوعظ مهنة تدر على صاحبها الأموال، وتمنحه مركزا اجتماعيا لا بأس به. وأخذ يحترف مهنة الوعظ كل من فشل في الحصول على مهنة أخرى. إنها مهنة سهلة على أي حال، فهي لا تحتاج إلا إلى حفظ بعض الآيات والأحاديث، ثم ارتداء الألبسة الفضفاضة التي تملأ النظر وتخلبه. ويستحسن في الواعظ أن يكون ذا لحية كبيرة كثة وعمامة قوراء. ثم يأخذ بعد ذلك بإعلان الويل والثبور على الناس، فيبكي ويستبكي، ويخرج الناس من عنده وهم واثقون بأن الله قد رضي عنهم وبنى لهم القصور الباذخة في جنة الفردوس. ويأتي المترفون والأغنياء والحكام فيغدقون على هذا الواعظ المؤمن ما يجعله مثلهم مترفا سعيدا.”
“قال لي أحد الباحثين الغربيين ذات يوم وهو يحاورني: لماذا شرّع دينكم شرعة الحرب وفرض عليكم الجهاد؟ وما هو السبب الذي جعلكم تفتحون العالم بحد السيف وتسفكون الدماء؟ ثم عقب على ذلك قائلا : إنّكم لم تفعلوا شيئا غير أن أقمتم إمبراطورية مكان أخرى وقضيتم على كسرى لتضعوا كسرى آخر محله.
قال هذا وتركني خائرا أضرب أخماسا بأسداس، إنّ هذا هو الواقع الذي لا مراء فيه. فأمير المؤمنين لم يكن يختلف عن أمير الكافرين إلا من حيث المظاهر والطقوس والشعائر الشكلية فتجد الخليفة يتهجد ويركع ويسجد ويكثر من البكاء والعويل وتراه يحج سنة ويغزو سنة وهذه كلها امور ظاهرية لا تمس جوهر الواقع بشيء. فالجباة هم الجباء والجلاوزة هم الجلاوزة ولن تجد لطبيعة هؤلاء تبديلا . إن الخليفة كان يعبد الله وينهب عباد الله.”
“كل حركة اجتماعية جديدة تُتّهم أول الأمر بأنها من صنع الأجانب والزنادقة، فإذا نجحت واستولت على الحكم صارت من صلب الدين ودخلت في سجل المقدسات الموروثة.”
فصول الكتاب
الوعظ والصراع النفسي
الوعظ وازدواجية الشخصية
الوعظ وإصلاح المجتمع
مشكلة السلف الصالح
عبد الله بن سبأ
قريش
قريش والشعر
عمار بن ياسر
علي بن ابي طالب
طبيعة الشهيد
قضية الشيعة والسنة
عبرة التاريخ
اضف تعليق