فقراء المدن في الولايات المتحدة يعيشون تقدما عمريا متصاعدا على مستوى الخلايا، ويعانون من توتر مزمن كلاهما مرتبطان بنسبة الدخل المالي والخلفية العرقية التي تسبّب هذا التدهور الفيزيولوجي.
هذه هي بعض من النتائج التي نُشرت منذ أشهر من قبل مجموعة من علماء أحياء و باحثين اجتماعيين بارزين، من ضمنهم الدكتورة أرلاين جيرونيموس الحائزة على جائزة نوبل، الباحث الزائر بمركز ستانفورد للدراسات المتقدمة والمؤلفة الرئيسية للدراسة، والتي وصفتها بالدراسة الأكثر شمولية من نوعها حيث تشرح كيف أن “العمليات الاجتماعية الراسخة هيكليا تعمل من خلال آليات بيولوجية كي تؤثر على الصحة”.
ماذا وجد الباحثون؟
حلل الباحثون التيلوميرات من الحمض النووي للفقراء وأصحاب الدخل المحدود من السكان السود والبيض والمكسيكيين لولاية ديترويت. التيلوميرات هي أقماع صغيرة موجودة في أطراف الكروموسوم، مشابهه للأطراف البلاستيكية لرباط الأحذية، والتي تحمي الخلايا من تقدمها سريعاً في العمر. تصبح التيلوميرات أقصر طبيعيا مع تقدم الأشخاص في العمر. ولكن أنواع متعددة من التوتر الشديد المزمن يُعتقد في تسببها في قِصر التيلوميرات والذي يرتبط بمجموعة من الأمراض من بينها السرطان، السكري، وأمراض القلب. تظهر الأدلة بشكل متزايد أن طول التيلومير مؤشر ينبِئ بحياة صحية طويلة الأمد، أي بمعنى أبسط ” كلما كانت التيلوميرات قصيرة، كلما زادت احتمالية الوفاة”.
وجدت الدراسة الحديثة أن سكان ديترويت ذوي الدخل المحدود، أيا كان عرقهم، لديهم تيلوميرات أقصر بشكل ملحوظ من من متوسط مجموع السكان. تقول الدكتورة جيرونيموس في مقابلة لها مع صحيفة الهفينغتون بوست : “هنالك آثار للعيش في الأحياء ذات نسب الفقر العالية والمقسمة عرقيا، حيث أن التجارب الحياتية التي يعيشها الناس ونمط المعيشة تكون غير جيدة للصحة”. تجدر الإشارة إلى أن الطرق التي تم فيها الربط بين الخلفية العرقية ونسبة الدخل مع طول التيلوميرات في هذه المجموعة من سكان ديترويت تظهر بعض الاختلاف الملحوظ.
لدى سكان ديترويت البيض من محدودي الدخل، التيلوميرات الأطول في هذه الدراسة. أما بالنسبة للتيلوميرات الأقصر فكانت لدى الفقراء من البيض. لدى السكان السود نفس طول التيلوميرات تقريبا سواء الفقراء منهم أو محدودي الدخل. الفقراء من المكسيكيين لديهم تيلوميرات أطول من تلك التي لدى نُظراءهم ذوي الدخل الأعلى. تقول جيرونيموس أن هذه النتائج أظهرت محدودية المعايير القياسية، كالعرق، نسبة الدخل، والدرجة العلمية – والتي تستخدم عادة لاختبار الفوارق الصحية. “اعتمدنا على هذه المعايير بشكل كبير (أكبر من اللازم) لإظهار الاختلاف في نمط المعيشة للأعراق المختلفة من أماكن جغرافية وظروف مختلفة أيضا”.
وفقا لجيرونيموس، من المهم الأخذ بعين الاعتبار ليس فقط، الخلفية العرقية ولكن أيضا “إلى أي مدى يتم التحقق منها، أو التمييز ضدها، أو حتى ما يُفهم منها خلال الحياة اليومية” كيف لها أن تؤثر على حياة شخصٍ ما بشكل كبير؟ التدهور الصحي المبكر ينتج عن مجموعة مختلفة من التجارب الحياتية”.
متى يكون للخلفية العرقية أثر على الصحة؟
لماذا إذن كان لدى الفقراء المكسيكيين في هذه الدراسة تيلوميرات أطول (أي: صحة أفضل) من التي كانت لدى نظرائهم ذوي الدخل الأعلى؟ أشارت الدكتورة جيرونيموس أن غالبية الفقراء المكسيكيين في ديترويت كانوا إما من الجيل الأول من المهاجرين أو من مجموعة من الأطراف العرقية المتماسكة. في المقابل، المكسيكيون من أصحاب الدخل الأعلى ولدوا غالبا في الولايات المتحدة وكانوا أكثر اندماجا في الثقافة الأمريكية من خلال العمل والدراسة.
تقول جيرونيموس: “إذا كانوا مهاجرين، فهم يأتون من خلفية ثقافية وتربية مختلفة لم تشدد على أنهم كمكسيكيين كانوا بشكل أو بآخر أقل أو مختلفين عن باقي الأمريكيين”، وتقول أيضا : “إنهم يأتون مزودين بمجموعة من أنظمة الدعم وبتوجه ثقافي لايجعلهم يشعرون بالنقص في القيمة الذاتية. ثم يعيشون هنا في مجموعات عرقية متماسكة، حيث أنّ كثيرا منهم لا يتحدث سوى الإسبانية، فلا يتواصلون مع الأمريكيين الذين يرونهم أقل منهم ويعاملونهم معاملة سيئة. ليس لأنهم محصنون ضد تلك المعاملة ولكن لأنهم ليسوا بتلك الحساسية، وكذلك لا يعيشون التجربة بشكل متكرر.
في المقابل، المكسيكيون غير الفقراء، أكثر عرضةً للنظرات السلبية عن المكسيكيين المتبناة من قبل الأمريكيين، الخلط اللذي يحدث على أن كل شخص من أُصول مكسيكية هو مهاجر أو مهاجر غير شرعي. أو حتى أقل تلك الإفتراضات حيادية مثل “لابد أنهم يتحدثون الإسبانية” أو “إنهم لا يفهمون الإنجليزية”. تقول جيرونيموس أن نتائج الدراسة الحديثة، المبنية على الأبحاث الفيزيولوجية الكمّية، تتناسب تماما مع أبحاث إثنولوجية سابقة على المكسيكيين في ديترويت قامت بها باحثة تدعى الدكتور إيدنا فايرول-فوينتيس من جامعة إلينوي.
في عام 2007، قامت فايرول-فوينتيس بمقابلة 40 امرأة مكسيكية من الجيلين الأول والثاني من المهاجرين في منطقة ديترويت. على الرغم من صعوبة قياس الديناميات العرقية، اعتمادا على مقابلاتها، تعتقد فايرول-فوينتيس أن “تحديد الخبرات التي تنطوي على تمييز قد يكون عملية تعلّم”. في أغلب الحالات، صنفت نساء الجيل الأول أغلب التفاعلات بأنها ببساطه “مسيئة”، بينما نساء الجيل الثاني وصفن تجارب مماثلة على أنها تمييزية.
في ورقة بحثية عام 2012، أشارت الدكتورة فايرول-فوينتيس بأن الجيل الأول عادة يبقى ضمن جماعات عرقية متماسكة حيث يكونون بمعزل عن السلبيات الاجتماعية التي يواجهها المهاجرين. تقول: “أما ما أظنه مختلفا في الجيل الثاني، هو أنهم يكونون متواجدين طوال حياتهم في بيئة تشوّه سمعتهم، والذي بدوره يؤثر على صحتهم بالسلب”.
تقول فايرول-فوينتيس: ” السؤال المطروح غالبا هو، ما الذي يجعل المهاجرين أكثر ليونة؟”، “ولكن الجزء الآخر من السؤال بالنسبة لي، “ما الذي يدمر صحة الناس في الولايات المتحدة؟”
بعض الآثار الصحية الأخرى المرتبطة بالعرق التي وضّحتها الدراسة الجديدة قد يُنظر لها على أنها غير بديهية. مستوى الدخل ليس له أي أثر على طول التيلومير لدى سكان ديترويت من السود، بينما التيلوميرات لدى الفقراء من البيض كانت أقصر بشكل كبير من تلك التي لدى البيض الأعلى دخلاً. لماذا؟
أشار مؤلفو الدراسة إلى أنّ:
الكثير من البحث يشير إلى أن البعد أو الإنفصال بين الفقراء وغير الفقراء من السود في الحياة اليومية أقل وضوحا منه بين الفقراء وغير الفقراء من نظرائهم البيض. ليس فقط أن السود لديهم عادةً تقارب سكاني أكبر بين الفئتين أكثر من البعد، بل يكون الفقراء وغير الفقراء من السود غالباً أعضاء لنفس العائلات والروابط الإجتماعية، يمارسون نفس الالتزامات المتبادلة، أو حتى لديهم تجارب وخبرة من العيش بين مستويات دخل قليلة إلى متوسطة بشكل مستمر.
عدم استقرار مستوى الدخل بين السود من الطبقة المتوسطة يعكس انعدام الأمن الوظيفي، نقص نسبي في الأصول التقليدية أو الثروة التي تعينهم وقت الشدة، أو انقسام على مستوى شبكة العمل والذي بواسطته يُتوقع من البعض المساهمة في اقتصاد الأسرة من خلال وظيفة مدرّة للمال. البعض الآخر يساهم من خلال النظر إلى احتياجات الأسرة التي تسهّل توظيف آخرين، وأيضا آخرون يُقدمون خدمات مهمة ومهارات كعملية مقايضة.
ألقى الباحثون الضوء أيضا على الفصل العرقي الضخم في منطقة ديترويت. “معظم السود في عينة الدراسة هذه إمّا يعيشون تقريبا حصريا مع سود آخرين (97% من سكان شرقي ديترويت هم من السود) أو يكونون الأغلبية في الأحياء المتكاملة (فمثلاً، 70% من سكان شمال غربي ديترويت من السود) والبيض هم أقلية واضحة في كل مناطق ديترويت (تتراوح من 2% إلى 21% من نسبة السكان)” .
وجد الباحثون أنّ الروابط بين طول التيلومير وفهم البيئة الحقيقي والرضا في الأحياء كانت أقوى عند السود، وتساءلوا ما إذا كان “القلق الأمني، البيئة الفعلية، والرضا عن العيش في الحي تنطبق على نطاق عالمي أوسع في كيفية عيش السود في أحياء ديترويت، والتي يمكن أن تكون بالتوازي أكثر إيجابية منها لدى المشاركين البيض أو المكسيكيين”.
في المقابل، فيما يتعلق بسكان ديترويت البيض، كتب الباحثون، “ربما مع الهجرة الجماعية لغالبية البيض وكثرة الوظائف في ديترويت، وتقلص فوائد عضوية النقابات العمالية ومعاشات التقاعد، وأيضا الإنخفاض العام في خدمات المدينة القائمة على الضرائب، الفقراء البيض المتبقون في المدينة خاصةً سيتأثرون سلبا من العواقب الاجتماعية والبيئية للتقشف العمراني. الإفتقار للموارد المالية والعلاقات الاجتماعية وتأكيد الهوية من الماضي سيجعل الفقراء المتبقين في ديترويت يملكون القليل ليحموا أنفسهم من الآثار الصحية للفقر والذل والقلق واليأس في هذا الوضع”.
تقول جيرونيموس ملخّصةً : “أظن أن كثيرا من الناس لايدركون مدى صعوبة الأمر لدى بعض الأمريكيين. الملوّنون (السود والمكسيكين مثلا) هم من عانوا تاريخيا من العزل السكاني والعنصرية على نحو غير متناسب، ولكن الأمر أيضا يصيب كل من يقع فيه، مثل الدلافين التي تقع في شباك الأسماك، يتضرر كل من يقع فيها. لدينا بعض الأدلة التي تقترح أنه سواء كان الفقراء المهاجرون من المكسيك أو الأفريقيين الأمريكيين الذين تعرضوا للعنصرية والقسوة جيلا بعد جيل، يبدو أنهم قد طوّروا أنظمة للتغلب على كل ذلك والتي ربما لم يطورها نظراءهم البيض في ديترويت. لذلك يوجد قوة عظيمة لدى هؤلاء السكان. لكن حل هذه المشاكل غير كافٍ بدون مساعدة صنّاع القرار ومساعدة المواطنين.
التيلوميرات، الصحة والعدالة الاجتماعية:
أحد القائمين على هذه الدراسة الجديدة هي الدكتورة إليزابيث بلاكبيرن التي ساعدت في اكتشاف التيلوميرات، وهو الإنجاز الذي نالت به جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء (الفيسيولوجيا) عام 2009. عندما بدأ بحثها في منتصف السبعينات من القرن الماضي، عملت بلاكبيرن على تحديد التيلوميرات في الكائنات الحية وحيدة الخلية والتي أسمتها بسخرية (طحالب البحيرة). ولكن على مر السنين، عندما اكتشفت هي وعلماء آخرون الآثار بعيدة المدى للتيلوميرات على صحة الإنسان، تغير مسار اهتمامها.
قالت الدكتورة بلاكبيرن في مقابلة معها من مكتبها في جامعة كاليفورنيا بسان فرانسيسكو “الكثير مما يجعل الناس مرفهين وذوي صحة جيدة أو العكس يأتي منهم أنفسهم ومن الظروف التي يعيشونها. هذا يجعلني أفكر أكثر حول العدالة الاجتماعية والقضايا الأكبر والتي تذهب أبعد من الأفراد”. تؤمن بلاكبيرن أن الأسئلة الحيوية المرتبطة بالسياسة الاجتماعية بقيت غير مُجابة وذلك بسبب القضايا ذات التعقيد الكبير. كان من السهل اختبار البيانات من وسائل البحث النوعية، كإجابات الناس في الاستطلاع حول تجاربهم الشخصية وتصوراتهم. “عندما يكون يصعب تقييم أمر ما، الأسهل فعله هو صرف النظر عنه. يقولون إنها علوم بسيطة وليست صعبة”.
ولكن ما يتوفر الآن من بيانات حول التيلوميرات يقدم طريقة جديدة لتحليل بعض هذه المواضيع المعقدة تحليلا كميّا. قامت الدكتورة بلاكبيرن بتحديد قائمة من الدراسات التي تكون فيها تجارب الناس وتصوراتهم مرتبطة بشكل مباشر بطول تيلوميراتهم، سواءً قالوا أنهم مرهقون ومتشائمون، أو قالوا أنهم يشعرون بأنهم عنصريون ضد آخرين أو أنهم يشعرون بعنصريه من آخرين تجاههم، أو أنهم عاشوا تجارب سيئة جدا في طفولتهم …الخ و”كل هذا يضيف إلى هذه الطريقة الكمّية. عندما تحصل على علاقة كمّيّة فذلك علم، أليس كذلك؟”.
ملاحظة: الصورة من أرشيف أحداث ديترويت الاحتجاجية سنة 1943
المصدر: http://www.huffingtonpost.com/2015/05/08/poverty-race-ethnicity-dna-telomeres_n_7228530.html?ncid=txtlnkusaolp00000592
اضف تعليق