ـ ماذا تقرأ؟
– (بعض الصمت).. السدّ
ـ وااو!
– أمّا في البرامج الإذاعية “الثقافية”، فهناك أيام في السنة، تحتفي بالسدّ. مثلا برنامج اليوم سيناقش تقديم الأستاذ فلان للسد، وفي برنامج آخر سنتحدث عن تقديم علاّن. لأنّ النقاش امتدّ عبر السنين، وبات الحديث عن السدّ نفسه مستهلكا، لنتحدث عن الحديث عنه!
“السدّ يقدم فلسفة جديدة يندر أن تجدها.”
“السدّ يقدّم لغة جديدة، في الواقع هو يعيد خلق اللغة العربية!”
أمّا ما صنع أسطورة “السدّ” بنظري، فهو حتما برنامج البكالوريا (التي يبدو أنها تعريب لـ “بحقّ الرؤية” المغاربية) آداب التونسي! وها قد قرأتُ السدّ و رأيتُ. هل هو أهمّ نصّ أدبيّ تونسي؟ لا أجرؤ أن أقارن أهمّيّته بأغاني الحياة مثلا. لكنّه أحد أهمّ الأعمال الأدبية التونسية بالفعل.
ـ لماذا تبدو متهكّما منه إذا؟ أنا لا أفهمك!
– أنا قلت إنه أحد أهم الأعمال الأدبية التونسية، ولم أقل إن الرجل يعيد خلق اللغة! أي كفر هذا و أي نفاق؟ لماذا يصرّون على قتل كل جميل بمبالغاتهم السخيفة؟ أية لغة جديدة خلقها المسعدي؟ و أي صياغة جديدة يراها المرء في نصّ السد؟ النصّ عاديّ منمّق مغرق في ألوان البديع أحيانا كثيرة. يستعمل معجما قرآنيا في الكثير من الأحيان لغاية في نفس الكاتب. لكن المؤكد أن السدّ ليس قصيدة “مطر” مثلا.
ـ هل تنكر العمق الفلسفيّ للمسرحية؟
– أغلب النقاد الذين قرأتُ “مبالغاتهم” يقرّون أن المسرحية صورة لبروميثيوس الميثولوجيا الإغريقية. لا يوجد “جديد” هنا بقدر ما يوجد تعريب لفلسفة موجودة بالفعل. هنا أيضا أسقط في المقارنة وأنا مجبر على ذلك لسبب بسيط أن السدّ “هي الأخرى” تحمل عبقا وجوديا لا يخطئه أنف. أقول هي الأخرى لأنني أقارنها بمسرحية “الذباب” لجون بول سارتر، حيث نجد أيضا صراعا حاميا بين البطل البشريّ: أوريستس و كبير الآلهة جوبيتر.
السؤال الخبيث هو: من كتب مسرحيته قبل الآخر؟ الذباب كتبت سنة 1943 أمّا السدّ فظهرت سنة 1955 لكن صاحبها يقول أنّه أنهاها سنة 1939. ربما هو مجرّد توارد أفكار لا غير، وربما كان سارتر يحسن القراءة بالعربية، ليقرأ السدّ قبل أن ينشر. المهمّ أن المقارنة بين العملين (وهما مسرحيتان، تحملان ذات الطابع الملحميّ الأسطوريّ عن صراع البشر مع الآلهة) ليست في صالح كاتبنا إطلاقا. لذلك أفضل أن نتواضع قليلا وأن ننسّب الأمور والأشياء. مسرحية السدّ جميلة وعميقة، لكن لا يجب تحميلها أكثر من طاقتها، والواقع أنها فنيا ليست بتلك المتانة كما سأحاول تبيينه.
ـ ومن أنت حتى تقول هذا الكلام السخيف؟ من أنت حتى تتهم أساتذة الأدب بالمبالغة و النفاق؟
– أنا مجرّد قارئ آخر طبعا، مجرّد قارئ خبر جهل الكثير من “الأساتذة” ومبالغاتهم، وسخافاتهم، وتشريعهم الأدبيّ للرداءة سنة بعد سنة. وحقّ له أن يقدّم رأيا وحججا، فمن شاء أن يناقش، فهي ذي الحجج والأفكار أمامه وليجب عنها لا عنّي، فأنا نكرة، و لكن الحجج قد يتبناها البعض، وقد يكون “البعض” كثير.
بل انظري إلى هذه العين البديعة تنفجر عن جنب الجبل، كيف تركوها منذ آلاف السنين تذهب فتغور مياهها و حياتها في الهاوية بمنقطع الوادي.
أعتذر عن عدم قدرتي على تعقيد الأمور، فأنا لا أفهم أعقد الأشياء حتى تبدوَ في عيني بسيطة، و البساطة في قراءة السدّ تنطلق من تحديد منبثق الدراما في هذا العمل. هذه العبارة التي قالها “غيلان” الشخصية الرئيسية، تحدّد البداية والأصل. قرية تعاني الجفاف، والجبل المحاذي ينعم مياها لكنّها تذهب هباء و خسرانا. الحل بناء السدّ.
مهلا! إلى أين تذهب؟ هاوية بمنقطع الوادي. منقطع الوادي؟ و أين ينقطع الوادي؟ هكذا يستمرّ مسافة ثم ينقطع؟ لا شلال، و لا بحيرة و لا بحر؟ ينقطع هكذا؟ ثم أين الوادي؟ في هاوية؟ حتى “منقطعه”؟ و المكان من حوله جاف غير ذي زرع؟ أحاول أن أستذكر (أو أتخيل) واديا آهلا بالماء، يملأ الجفاف ما حوله، فأخيب. الواقع أن الصورة جغرافيا مرهقة لذلك سأذهب مذهب “هذه تفاصيل سخيفة لا داعي للانشغال بها، الأهم هي الرمزية، و الأفكار و الفلسفة من وراء كلّ ذلك” .. في الواقع، الرمزية و الافكار و الفلسفة مادامت تقدّم في الأعمال الأدبية في قالب فنيّ، فيجب احترام القالب الفني، بما فيه من سيناريو و حبكة قصصية و ادوات بلاغية و تركيب شخصيات الخ الخ.. لكن لا علينا، لننخدع كما يقول أحمد خالد توفيق.
“غيلان” سيواجه الآلهة صاهبّاء التي ترفض بناء السدّ، لأنها.. الآلهة. أو لأنّ السدّ هو رمز قدرة الإنسان على الخلق. بشيء من التدقيق، يمكن أن نلحظ أن صاهبّاء (ربما عكس جوبتر سارتر) لا تمثل الجانب القدريّ الجبار الذي يحاول تسيير الانسان إلى حتميته، بقدر ما تمثل جانب الخنوع و التواكل و التخلّف و السكون فيه. صاهبّاء هي عزوف اهل القرية عن الفعل، و ركونهم إلى الدعاء، خوف أهل القرية من التغيير و جنوحهم إلى العادة. و العادة هنا بكل معانيها. ذلك أننا لو عدنا إلى ظرفيّة كتابة “السدّ” التاريخية، و اطلّعنا على المجتمع التونسي في تلك الفترة، فلربما فهمنا جانبا مهمّا لعلّه دفع المسعدي إلى كتابة هذه المسرحية. هذا الجانب هو انتشار الجهل و سطوة الأساطير الدينية التي تقعد التونسيين عن فعل البناء الحضاريّ. ربما عبّر عن هذه الصورة قصيدة شهيرة لنزار قباني من تلك الفترة أيضا و هي “خبز و حشيش و قمر”. إن التشابه البيّن بين الفكرتين لجدير بأن يدفعنا إلى القول بتشابه الحقيقة في الأوطان العربية. لكن هذه مسألة أخرى …
المهم أنني أعتقد جازما أن هذا هو الدافع الأكبر لكتابة السدّ، لكنّ ذلك لم يمنع الكاتب من انتقاد الدين في ذاته. و هو أمر وجدته غير موفق بالمرة.
ذكرتُ سابقا إن النقاد يجمعون على الجانب الملحميّ الأسطوريّ في المسرحية الذي يحيلنا إلى الميثولوجيا الاغريقية. و هو مع ذلك جوّ عربيّ يحفل بالرموز الثقافية العربية. لكن، لنعد ترتيب الأوراق قليلا. حينما نتحدث عن الثقافة العربية، فإننا لا نعدم أسماء آلهة، و لا نعدم ميثولوجيا وثنية. و لعلّ بعضها مشابه لآلهة الأولمب أيضا. فلماذا البحث عن “صاهبّاء” ؟ ثمّ، هذا الابتهال المبتذل، “هلهبّا صاهباء”. من أين جاء به و ماذا أراد به القول؟ أما ما يحيّر النفس، فهذا التداخل المبهم بين معجم فانتازيّ (فيه ربّة لا نعرف عنها شيئا في كتب التاريخ) و معجم إبراهيميّ واضح المعالم لا يحتاج إلى جهد أو إلى تأويل (فيه قرآن و إنجيل و توراة، و فيه آدم و حواء و نوح و أنبياء) فهل كل ذلك على سبيل إكمال صورة الميثولوجيا؟ لا أظن ذلك. الدين هنا ينتقَد و يُرفض و ربما يتعرّض للتهكم أيضا. لاحظوا استعمال كلمة “إسلام” في أكثر من موضوع بمعنى الخنوع و التسليم، لكن الكتاب يصرّ على استعمال لفظة “إسلام”. كما أن إنجيل الربة صاهباء ليست إلا محاولة خفيّة كما فعل الذين سبقوا المسعدي من قبلُ ثم أدركوا خطأهم، إنّ تقليد القرآن ليس إلا إقرارا بمعجزته اللغوية. و في الواقع فالمعجم القرآنيّ حاضر في أجمل مقاطع نصّ السدّ و أكثرها بوحا بأفكار المسعدي و مطامحه من وراء قصته. و هو اقرار لاشعوريّ بعبقرية النصّ القرآني الذي حاول التهكم على تقديس الناس له، و حاول جرّه إلى ساحة محكمة السخرية السخيفة.
هناك الكثير مما يقال بشأن الحجارة و ميمونة و البغل، لكنني أحب أن أتحدث أخيرا عن الربة صاهباء و ميارى. ذلك أن الربة كانت غائبة تماما عن المسرحية و كنت أنتظر لها مشهدا دراميا صاخبا مع غيلان، لكن من الواضح أنها غابت لسبب ما، أو لغير سبب. و أنا أرجّح أن السبب هو اختيار المسعدي أن تظل الآلهة فكرة، وهما، لا إجابة حاسمة عن وجودها أو زيفها
أما ميارى فقد أحبطني ظهورها، و قد كنت أتخيل أشياء كثيرة بشأنها قبل قراءة الكتاب، و لنقل إنها تمثل طموح غيلان، و سعيه نحو الإنسان الأرقى، هي كائن من نور (و النار غير محمودة هنا) لا كائن بشريّ، يترك من أجلها غيلانُ ميمونةَ و جسد ميمونة الذي يدعوه إلى الاستسلام، و إلى الحياة الممتعة. و الأسئلة هنا تتعدّد بداية من النظرة التي قدّمها المسعدي للجسد، ثم للمرأة، ثم هل إن غيلان كان يحتاج إلى شيء “نورانيّ” ليتّبع طموحه و أفكاره و مواقفه؟ في نهاية الأمر، ربما لم يفكر المسعدي في كل ذلك و هو يقابل بين ميمونة الكائن البشري و الرفيق و بين ميارى التي تأتي فجأة من السماء، أو من غيلان نفسه. ربما كانت وسيلة بسيطة لايجاد دعم لبطله، لكنّني أعتقد أنه دعم غير أصيل، و أنه لو ظل وحيدا ضدّ الجميع لكانت جرعة الدراما أكبر ها هنا.
من الإجحاف القول إن السدّ ليس كتابا ثريا. لكنّ الإجحاف الأكبر هو تحميله ما لا طاقة له، و هو أيضا (من الإجحاف) عدم التعرّض إلى ضعفه الفنّي و إلى أنه ليس بذلك العمل الفارق الذي جاء بفلسفة جديدة إلى العالم. إن أسوأ ما يقدّم به كتاب أدبيّ، هو ما ليس فيه من عظائم الأمور.
اضف تعليق