لم أفكّر يوما بالبحث عن تعريفاتٍ لكلمة “الثِّقافة”، حتى إنّني نسيتُ التعريف الذي أخذناهُ في المدرسة عنها. إلاّ أنّني مع الرأي القائلِ بأنّ الثّقافة هي “معرفة شيءٍ عن كل شيء”.
القراءة هي الوسيلة الأشهر للحصول على المعلومات، وهي ملحُ الثقافة الذي يضبط نمطية تفكيرك ويضيف لها طعما مميزا. ولكن، ماذا تقرأ؟! ظاهرةٌ سيئةٌ تنتشر هذه الأيام هي “الكتب الشفّافة”! وأحب تسميتها بهذا الاسم لأنها بلا معنى، ولا تضيف أي كنزٍ معلوماتيٍ لتلك القطعة الموجودة داخل جمجمتك. فترى أشباه الكُتّاب يرصّون كلاما غير مفهومٍ وغير مترابطٍ أصلا في أسطرٍ ليكوّن روايةً أو كتابا يتلقّفه جمهور الشباب الذي يريد الحصول على لقب “مثقّف” بسهولةٍ ويُسر. فلو فكّرتَ جيّدا بعد القراءة، قراءتكَ لأحد تلك الكتب أو الروايات، سترى أنكَ خرجتَ بلا فائدةٍ تُذكر، فتندم على وقتٍ كان يمكنكَ أن تكسبه في قراءة كتابٍ آخر مفيد. ومن المؤسف أنّنا نعطي أشباه الكُتّاب هؤلاء الفرصة ليلمع نجمعهم في سماء عالم الأدب. يقول الروائي الأسطورة غابرييل ماركيز في إحدى مقالاته عن أمثال هؤلاء :
“جاء إلى بيتي في مدينة مكسيكو شابٌ في الثّالثة والعشرين من العمر، كان قد نشر روايته الأولى قبل ستة شهور، وكان يشعر بالنصر في تلك الليلة لأنه سلّم لتوّه مخطوط روايته الثانية إلى ناشر. أبديت له حيرتي لتسرّعه وهو لا يزال في بداية الطريق، فرد عليَّ باستهتارٍ ما زلت أرغب في تذكّره على أنه استهتارٌ لا إرادي:”أنت عليك أن تفكر كثيرا قبل أن تكتب؛ لأنّ العالم بأسره ينتظر ما ستكتبه، أمّا أنا فأستطيع أن أكتب بسرعة؛ لأن قلّة من الناس يقرأونني”. عندئذ فهمت.. فذلك الشاب قرَّر سلفا أن يكون كاتبا رديئا، كما كان في الواقع، إلى أن حصل على وظيفةٍ جيدةٍ في مؤسسةٍ لبيع السيارات المستعملة، ولم يعد بعدها إلى إضاعة وقته في الكتابة”.
والعجيب أن قُرّاءً كهؤلاء يصنّفون أنفسهم في خانة المثقّفين لمجرد رواياتٍ لا تسمن ولا تغني من جهل. في حين أنهم لو قرأوا كتبا مفيدةً حقا لأصابهم التواضع. يقول صاحبي عبد الله الخالدي : “كل كتابٍ جديدٍ تقرأهُ يكشف لكَ كم هي سحيقةٌ فوّهة جهلك”. إذن ماذا تقرأ ؟!
هناكَ العديد من الكتب المفيدة، إلا أنها جامدةٌ في طريقة العرض، ككتاب “البداية والنهاية” لابن كثير مثلا. فترى قُرّاء هذا العصر ينفرون منها إلى الروايات سهلة التأليف سهلة القراءة . والصحيح أن ينفر أحدهم إلى كتبٍ أخرى يستفيد منها بالإضافة للمتعة. لنأخذ كتاب “مختصر تاريخ العالم” لغومبريتش مثالا، فالكاتب رصَّ أحداث التاريخ الرئيسية على هذا الكوكب في 350 صفحةٍ بطريقةٍ قصصية، مما يضفي متعةً أثناء القراءة إضافةً للمعلومات القيّمة التي ستخرج منها في كل صفحةٍ من صفحات الكتاب. حتّى إنّ الكثير من المؤسسات التربوية اعتمدت هذا الكتاب لتدريس التاريخ للأطفال لسلاسة العرض وبساطة الطرح. ولنأخذ كتابات الأستاذ محمد قطب مثالا آخر، فالرجل في كتاباته يراعي المستويات العقلية لكل القُرّاء، فيفهم كتاباته الكبير والصغير والعالم والجاهل. كما أن طريقة طرحه للأفكار وترتيبها في كتاباته تجعلكَ لا تملّ من القراءة ، ناهيكَ عن المعلومات الثريّة التي ستضيفها لمكتبتكَ حين قراءتكَ لها.
رابط تحميل كتاب مختصر تاريخ العالم
عندما تقرأُ لكُتّابٍ كهؤلاء تكون قد نجوتَ من الجمود أو الجفاف الذي يُعرض في الكتب العلميّة أو التاريخيّة أو الدينيّة البحتة، وتكون قد نجوتَ من قراءة كتبٍ لا تُثري معلوماتكَ بأي جديد. ولو أردتَ قراءة قصصٍ أو رواياتٍ للرفاهية الفكرية والابتعاد عن جمود الكتب العلمية فأنصحكَ حينها بـ القراءة لتشيخوف وتولستوي والأدباء الروس عامّة، فالأدب الرّوسي في فترتهم كان يميل للواقعية. وستلحظ مدى بساطة الطّرح في قصصهم ورواياتهم ومسرحياتهم. وإنْ أردتَ قراءة الشعر فعليكَ بالشعر العربي القديم خصوصا، فتخيّل كمّ المتعة التي ستجدها وأنتَ تقرأ بيتا واحدا يضمّ أكثر من معنى، ناهيكَ عن المحصّلة اللغوية التي ستخرج بها بعد كل قصيدة.
حين نتحدّث معك ونستشفُّ أنّكَ ملمٌّ ببعض العلوم من هنا وهناك، حينها يمكننا تسميتكَ بالمثقّف حقّا. أمّا أن تقرأ كلاما إنشائيا وتعيد اجتراره فهذا يجعل منك ببغاء لا أكثر، مهما حاول المحيطون بكَ أن يبدو إعجابهم بما “تتقيأ” من كلام. وحين تكتب شيئا نشعر أنّنا استفدنا منه ولو بشِقِّ معلومةٍ فحينها نقول لكَ أنّك على الطّريق الصحيح لتصبح كاتبا يستفيد منكَ القُرّاء، وسنسعدُ بإضاعة وقتنا في قراءة ما تكتب، لأننا على يقينٍ أننا لا نضيعه إلا فيما يستحق.
تثقّفوا تصحّوا ، وتحصّنوا ضد الجهل الذي يجلب الأوبئة الفكرية. وانتبهوا لما تُطالع عيونكم وتكتب أناملكم، فبداية نهوض أيّ أمةٍ تكون من بداية نهوض عقل كل فردٍ فيها.
في نفس الموضوع، راجع مقالنا السابق
اضف تعليق