أمام حجم البلاهة واصطناع الفهلوة التي يكون أصلها غالبا “جحشنة” يراد إخفاؤها، وأمام حجم الرّداءة والتّعاسة والصّبيانية التي تمرّ بنا في الفضاء الافتراضي –فيسبوك- تذكّرت عملا للفنان “غويا” نفذه بأسلوب الرّوسمة « Etching». تتمثّل اللوحة في رجل ينام منكبّا على مكتبه بينما تحتشد من حوله و خلفه أسراب من كائنات متوحشة تندفع بلا هوادة من قلب الظلام. وتحت الصورة عبارة تفسيرية نقشت بالإسبانية فيها “نوم العقل يطلق الوحوش من عقالها”. والحقيقة أن مجرد حلم المرء بالعقل كفيل بإطلاق الوحوش. وإن كان التوحش في شكله النمطي هو الذبح والتنكيل بالجثث وقتل الأبرياء، وهي الحالة الهستيرية التي يثيرها خوف أربابه من استفاقة العقل، فإنّ الغباء والبلاهة والفساد والميوعة والجهل التي سببها نوم العقل قبل ذلك هي أركان صناعة مناخات التوحش.
لعلّ مشكلتنا الراهنة هي بالأساس مشكلة رسم حدود بين التوحش والبلاهة. فالمشهد الوحشي الذي يجتاح أرضنا يترافق مع مد ساحق للبلاهة التي لا حدود لها. والبلاهة كالوحشية تتلوّن بألف لون و لون، وربما تكون أشد خطورة. المتوحش يعرف نفسه ويجيد اختيار مريديه، بينما يظل الأبله مختالا فخورا يظن غالب الأمر بأنه “الفهلوي” -مصطلح لعالم الاجتماع المصري حامد عمّار-. ينشر فهلوته في أوساط مخدوعة بأفراد مخدوعين قصد التغرير بآخرين، بعد أن يصدّق فعلا بشكل مرضي أنه يمتلك ذاتا مفكرة قادرة على النقد و التمييز.
لا شك أن امتلاك القدرة على الحكم والعقل النقدي استحقاق علينا أن نعمل على تملكه للنجاة من شباك الفهلوي المترصّد. وحتى ننجو من تبعات مناخ التوحش الذي يعمل الفهلوي على التأسيس له، أذكر جيدا أننا كنا نعتمد في تقرير نوع سلوكياتنا عندما كنا مراهقين في أعمارنا وأفكارنا على كتب الشعر والأدب لكي نعيش عالم الأحلام، وعلى السينما لكي نحلق ولو واهمين في دنيا الخيال، وعلى معلومات عشوائية في الراديو و التلفزيون لكي نقرر مواقفنا في الحياة، متأثرين بالألاعيب اللغوية التي حيكت لخديعة أمة كاملة. كما يفعل الغشاش عندما يكنس الغبار و يدسه تحت السجادة موهما الناس بأنه وجد حلا جذريا للمشكلة، بينما يساهم في تفاقمها يوما بعد يوم. لم يكن الفضاء العام محررا حينها لمثقفين عقلانيين يمتلكون القدرة على تحليل الوقائع الاجتماعية قياسا على الأسباب الداخلية والخارجية التي أنتجتها.
وكنّا قد اعتقدنا وسط الزمن الثوري أن الفضاء العام تحرر ليُفتح أساسا لهؤلاء. لكن شخصية الفهلوي التي تجيد تصيد الفرص اجتاحت الفضاء العام و ضيقت على الحقيقة. الفهلوي الذي يبحث غالبا عن أقصر الطرق و أسرعها لتحقيق هدف معين أو غاية معينة. همّه ليس إنجاز العمل على أكمل وجه وإنما إنجازه وكفى حتى لا يقال أنه عاجز. يكفيه منشور فايسبوكي سطحي لجمهور مغرر به أحيانا. ينزع فجأة إلى الحماس والإقدام العنيف والاستهانة بالصعاب ثم تفتر همته عندما يتبين أن المسار مسار رجال أولي عزم و صبر. يغالي في تأكيد ذاته والميل الملح لإظهار القدرة الفائقة في التحكم بالأمور والاستهتار بالغير والتقليل من شأنهم والاستهزاء بهم. وإن كان يعلم في قرارة نفسه أنه أقل منهم شأنا وعلما وتأثيرا. هؤلاء اجتاحوا الفضاء العام و اغتصبوه. حتى أنهم صنعوا قوانينه و نجحوا في التأسيس لفكر الفهلوة -خصوصا في الأوساط الشبابية “النشطة”-.
ما بين النقد الوصفي المساهم في خلق مناخات التوحش القاصر و النقد التأسيسي الذي يهدف إلى تجاوزه :
لسنا في حاجة إلى نصوص تسعى للنقد « criticisme » بالمعنى المألوف -الذي يهواه الفهلوي- و إنما إلى ما يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، للنقد التأسيسي الشامل « critique »، النقد المسلح بمحمول معرفي متعدد الأنظمة -ما يفتقر إليه أصحاب الخلفية التقنية غالبا- مشفوعا بطاقة حجاجية تقوم آليات تدخلها السّجالي بترويض الكائنات المتوحشة ببلهائها و متوحشيها و فهلوييها. لطالما ارتبط النقد « critique » بالأزمة « crisis » . النّقد بما هو التقييم أو القرار أو الحكم أو التمييز أو التقرير الذاتي في خصوص واقع موضوعي فيه خلاف أو صراع أو شقاق أو ما شابه، “النقد نظرية أزمة” هكذا قال ماركس.
كيف نؤسس للعقل النقدي؟
علينا وجوبا الابتعاد بداية عن فهم الأمور وفقا للعلاقة السببية الأحادية الميكانيكية، التي بلغت بالبعض حد الحديث عن الثورة التي جلبت الحرية التي فتحت بدورها الفضاء للسلفية الجهادية التي تمكنت من الاستقطاب ووصلت بها القوة حد القيام بعمليات إرهابية موجعة. وبالتالي الثورة سبب كل هذا والحل هو العودة لمربع ما قبلها. نحتاج إلى شخصيات جدلية عضوية في مقابل الميكانيكيين الأحاديين يفهمون “بنية” الأزمة على أنها تبادل تأثير وتفاعل بين عناصر مجموعة أو منظومة معينة بشكل يجعل كل عنصر من عناصرها مؤثرا في العناصر الأخرى و متأثرا بها في الوقت نفسه.
بقي أن نشير نهاية إلى أنّ شخصية “الفهلوي” تزدهر في المجتمعات التي ترتكز في سلوكها و نظراتها على نمط الحياة التقليدي الاتباعي الذي ينمط الفرد و يجعله يدور دوما في فلك محدود. وهو فلك اتباعي يبقي القديم على قدمه و يحافظ على أنماطه لينقلها إلى الأبناء. علينا الإشارة أيضا إلى أنّ الذين يعتقدون أنه يتعين علينا نحن العرب المعاصرون المرور عبر طقوس العبور لكي نحقق التقدم وفقا للنموذج الغربي المسبق الصنع هم أشد “فهلوة” من “الفهلوي” و يخضعون معه لذات التوصيف و يشتغلون رفقته لتحقيق نفس المصالح .
اضف تعليق