تعتبر موسيقى الكناوة في الأصل، مزجا من الطقوس الاحتفالية للمعتقدات الأسطورية الإفريقية والأمازيغية القديمة. ومصطلح كناوة يعود في الأصل إلى جذور أمازيغية، ولكنه أصبح ذا تركيبة مغربية صرفة، بعد أن أصبحت هذه الموسيقى معروفة في بلاد الأطلس، حيث تمّ تدارسها لتكون ضربا من ضروب استقطاب العديد من الفنانين. وهي بالرغم من انتسابها الجغرافي الحالي للبلاد المغربية، وانعدامها أو انقراضها في مالي والنيجر وعديد البلدان الإفريقية الأخرى، إلّا أنّ الكلمات التي تصاحبها ظلت محافظة على الكثير من المفردات والكلمات الإفريقية. إنّ طقوس الكناوة شهادة تثبت تأثير ثقافة غرب إفريقيا على المغرب. وقد استطاع المغربيون، أن يضفوا على هذه الموسيقى طابعا صوفيا وروحيا، ممّا يجعلها حكرا على تجربتهم، أو مطبوعة ببصمتهم الفنية، ذات الأصول الدينية في منحاها الروحاني والصوفي. أمّا عن المشترك بينهم وبين باقي أنواع الموسيقى في القارة الافريقية، فهو تلك الأهازيج وطقوس الرقص والإيماءات الجسدية، التي تبيح التخمّر والجذبة والانفلات من العالم المادي، بجعل الجسد يحلّ في الغياب، وتشويش حواسّه، ممّا يجعل منها أشبه بالسحر والسفر في دروب الروحانيات.
في البدء كانت هذه الموسيقى حكرا على الهامشيين، والعبيد، والسود، ولكنّها الآن تستقطب جلّ الشرائح الاجتماعية. بل وخرجت من حقلها الجغرافي الضيق، لتسافر دون جواز سفر إلى العالم، وتنافس العديد من أنواع الموسيقى العالمية. وربّما أفضل دليل على ذلك، هو أنّ الغرب، فرنسيون وألمان وأمريكيون يشترون آلات الكمبري، ويجرون العديد من الدراسات حولها، ويتنافسون من أجل تعلمها. فقد سافر عدد كبير من الفنانين الى المغرب، ومن بينهم راندي ويستون وجيمي هندريكس وكات ستيفنس، بهدف الدّخول وتعرّف عالم هذه الموسيقى الاستثنائية والمختلفة، لما تمثله من أبعاد دينية، تأتي كطاقة استشفائية من خلال تخليص الإنسان من إكراهات العقل وأزمات العلم وحالات الاغتراب والاستلاب. كما أن كل من الفنانين بوب مارلي وبيتر غابرييل وكارلوس سانتانا، كانوا قد اشتركوا بعزف الموسيقى مع مجانين الكناوة وعشّاقها. وهو ما حلّق بها إلى مستوى العالمية.
ولأن الكناويين انحدروا في الأصل، ومنذ القرون الوسطى، من السودان ومالي والنيجر، حين كانوا عبيدا تمّ جلبهم إلى شمال إفريقيا، وتحديدا في جنوب المغرب، تمكنوا من إنشاء زوايا لها طابع علاجي، باعتبار أنهم ادعوا الانتساب الى بلال مؤذن الرسول، وفي ذلك ما يضفي الشرعية على قداسة زواياهم. ونجاحهم في ربط سلالتهم الأولى بهذا الجانب القدسي، جعل منهم على صلة قوية بما هو روحي. تقول العديد من الدراسات بأن لهم قدرة خارقة في التأثير على حياة الناس والتحكم بمستقبلهم، فهم يرون أنه من الضروري أن تنشأ مصالحة ما بين عالم الإنسان وعالم الجان. تكمن وسيلتهم في شفاء المرضى عبر هذه الموسيقى التي عرفوا بها، حيث تقول المعتقدات بضرورة خروج الموسيقيين ليلا، كي يدقوا الطبول ويرددوا الأناشيد الدينية، ثم يتشكل المشهد الفرجوي بعد تجمّع الكناويين للرقص والقيام بحركات بهلوانية، ومن ثمّة يطلق البخور وسط الهتافات والأغاني واعتماد الألوان في الملابس التي يرتدونها.
إن أوّل ملاحظة نستطيع أن نسوقها حول هذه الموسيقى، هو أنّ جذورها روحانية ودينية، كما أنها تتغنى وتولد من رحم البسطاء والعبيد والمهمّشين، قبل أن تعلو إلى مرتبة العالمية، لذلك لسنا نحاول الكشف عن نجاحها الإنساني، لأن هذا الأمر بسيط وسطحي يستطيع أيّا كان معرفته، بل ندفع بهذا إلى البحث في عالم الغرابة الذي يصلها بعالم الميتا-فوق والأرواح. فقد كان لزاما على الكناوة من كسر بعض المحرّمات وتقويضها، وذلك كمرحلة تبيح لهم الاتصال بتخوم الجان، والماورائي الذي يحرّم المقدّس الديني الإسلامي الخوض فيه. ومن تجلّيات ذلك أن يلبسوا الأردية الملوّنة، والتحوّل في شكل مواكب دينية إلى مكان ما، على إيقاع قرع الطبول التي تمكّنهم من طرد الأرواح الشرّيرة، وتنصّبهم كملائكة. عادة ما تحضر الشموع في الطقس الفرجوي للكناوة، تحملها النساء والأطفال، وفي أيديهم أيضا كؤوس امتلأت بالحليب، وعراجين من التمور كهبة وقرابين للأرواح. ولاكتمال هذا الطقس المرفوق بعوالم الدهشة والسحر، تبدأ آلة الكمبري في العزف، وتنشأ التذاكير، والابتهالات، ثم يكون الرقص، كعلامة على تذويب الجسد، ورحيل الروح إلى الأسلاف الأوائل. وإنّ كلّ شيء هنا يذكرهم بعالم البدء، في أزمنة ما قبل العبودية، قبل الوقوع في الأسر.
في هذا المناخ الفرجوي، يضمحلّ الزمن الدنيوي، ويحلّ محلّه الزمن المتافيزيقي- النفسي، فتتسنّى للروح أن تبرأ من تعب الجسد، وتسافر إلى موطنها الأوّل. فالمشاهد يستطيع أن يرى العجب العجاب، إذ تظهر الراقصات في حالة غياب وتخمّر وجذبة، ويعمّ اللوز الأزرق الذي يحلّ في رمزية السماء صفاء وبدايات ووحيا، وعادة ما يرى أيضا سقوط راقص ما، فيتمّ رشّه بعطر الورود. أو يرى، أحدهم يرقص مستعملا سكينا ببراعة، دون أن يجرح نفسه. وفي الأثناء تكون الأنغام قد تمكّنت بالجميع. وكأنّ الأمر أشبه بلحظة شطح صوفية. عادة ما تسيطر النساء على ساحة الرقص زمن الطقس الفرجوي، ويصاحبهن في ذلك اللون الأصفر، والإضاءة الخافتة، حيث تتساقطن الواحدة تلوى الأخرى، عبر حركاتهن المنتشية، وشعرهن المتطاير. ومن حولهن نساء أخريات وصلن إلى درجة الانخطاف والاتحاد بالذات الإلهية أو المطلق. ومن هنا يتعافى المريض باسم المقدس، على خلاف المؤسسة الدينية الرسمية. وتنتهي الطقوس الفرجوية بالأكل، الذي يغلب عليه لحم الماعز والزيتون والخبز. كلّ هذا من شأنه أن يثير حفيظة الدّين لأنه في جانبه المؤسساتي يرفض رفضا قاطعا كل أساليب السحر.
إنّ الكناويين وبالرغم من أنّهم يعتبرون أنفسهم مسلمين، وبالرغم من أن أغانيهم تتضمن العديد من الآيات القرآنية، إلا أنهم واجهوا نقدا لاذعا من قبل الإسلاميين، الذين اعتبروا في كثير من الأحيان، أن الكناوة تلقى دعما يهوديا، ومرجعيتهم في ذلك، أن روّاد هذه الموسيقى على دراية شاسعة بالأرواح الإفريقية واليهودية وحتى المسيحية، وأنه لا يجوز توظيف القرآن في الأغاني والموسيقى. وعلى العكس من ذلك فقد ذهب الكناويون بالقول أن الموسيقى والفن، تتناغم فيهما كل الحضارات الإنسانية والثقافات المختلفة.
اضف تعليق